ثقافة

مانديلا أسطورة الحبّ والسلام في سرديات سينمائية متعددة

“بلادي لم تكن أرضاً للكراهية ولا يولد الإنسان وهو يكره غيره بسبب لونه ،بل الآخرون هم الذين يعلمونه الكراهية ،ويمكن أن يتعلم الحبّ لأنه أقرب إلى القلب البشري”
هذه المقولة لخصت فيلم “طريق مانديلا الطويلة نحو الحرية” بتوقيع المخرج جوستان شادويك وسيناريو وليم نيكولسون والمأخوذ عن المذكرات التي كتبها المناضل نيلسون مانديلا وهو بالسجن ،بطولة إدريس إيليا وناعومي هاريس ،وقد ارتأت المؤسسة العامة للسينما أن يكون فيلم افتتاح الجزء الثاني من مهرجان أفلام حديثة جداً،تناول قرابة نصف قرن من حياة مانديلا الرجل الذي تحوّل إلى أسطورة تنشد الحب والسلام في زمن العنف والكراهية  مردداً مقولة “عودي إلينا يا إفريقيا”.الفيلم الذي تجاوز ساعتين جاء بمستويات سردية سينمائية متعددة مزجت بين الوثائقي والروائي والذاتي بحبكة محكمة ،جعلت المتلقي أسير الزنزانة المفردة التي كانت المكان الأساسي في الفيلم ،والتي قاد مانديلا من جدرانها المغلقة شعبه نحو الحرية .وبتقنيات سينمائية دمجت بين الحلم والمنولوج وخاصية السينما داخل السينما تتالت المشاهد ضمن مسارات متشعبة ،وظّفها المخرج لتختزل نصف قرن من النضال ضد سياسة التمييز العنصري ،لنصل إلى رسالة الفيلم برفض مانديلا سراحه المشروط بتعهده عدم مطالبة السود بالحرية والدفاع عن أرضهم.

قصاصات مراقبة
بدأت مجريات الفيلم من عام 1942 بداية الثورة ضد الأبهارتيد في جوهانسبورغ لنرى مانديلا شاباً حقوقياً يدافع عن امرأة سوداء متهمة ظلماً بسرقة ملابس “ثرية بيضاء” كانت تعمل عندها ،لتنتقل الكاميرا إلى ضرب رجل أسود من قبل عنصر أبيض حتى الموت ،ليتفاقم غضب مانديلا ويشكل مع رفاقه المجلس الوطني الإفريقي. وقد أقحم المخرج الإطار الوثائقي بعرض مشاهد واقعية مما يدور في الشارع الأفريقي ،ليبتعد في لحظات هاربة من البعد السياسي إلى أتون العاطفة المتقدة والمغرقة في الرومانسية الساحرة في مشاهد عاطفية مطولة بين مانديلا وحبيبته ويني – أول عاملة سوداء في الخدمة الاجتماعية- في الحقول الصفراء التي ارتبطت بالحلم المرافق لمانديلا بذاك الكوخ القديم لوالدته ،وفي منحى آخر لجأ المخرج إلى تضمين خط آخر ضمن الخطوط  يوحي بتجذر الإفريقيين بأرضهم وتاريخهم بتصوير الطقوس الغريبة التي يتبعها الأفريقيون بمراسم الزواج وبالأزياء الخاصة بهم حينما أعلن مانديلا زواجه من ويني بعد انفصاله عن زوجته الأولى.
ويعود المخرج إلى السياق الروائي لمتابعة مراحل النضال وكيفية تخفيه واعتماد المجلس سياسة العنف بعد أن فشلت كل المفاوضات ،إلى أن يتم اعتقال مانديلا ويحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
تنتقل الكاميرا إلى جزيرة روبن المنعزلة التي قضى فيها مانديلا ثمانية عشر عاماً ليتجه المخرج نحو إيضاح العمق الإنساني لتجربة الاعتقال بالإحساس المؤثر الذي تمكن من إيصاله إلى المشاهدين إدريس ألبا بأدائه الرائع ،لنرى مانديلا يعاني من استفزاز السجان ويناضل بصمت مع شريكته ويني التي قادت عمليات النضال في الخارج عبْر قصاصات مراقبة تقص منها الكلمات الهامة ،لنصل إلى المشهد المؤثر حينما سُمح له بلمس يد ويني بعد إحدى وعشرين سنة من البعد والفراق على مرأى  من السجان ،ليتبع بمشهد أكثر شجوناً مقابلته ابنته التي أصبح لها دور سياسي فيما بعد والتي صارت في السادسة عشرة بعدما تركها وهي في الثالثة ،حاول المخرج أن يمرر أثناء الأحداث الانعطافات المفجعة التي مرت بحياة مانديلا وهو في الاعتقال كموت ابنه الأكبر وموت والدته ،وعمد إلى أسلوب المقابلة والتضاد بسخرية مانديلا بطلبه سراويل طويلة والمشهد الموجع حينما طلب السجان من مانديلا ورفاقه أن يخلعوا ملابسهم ويمضوا ليلتهم تحت المطر بالبرد الشديد.

سراح غير مشروط
في القسم الثاني من الفيلم  يتابع المخرج المسار الوثائقي بعرض مشاهد الغليان الشعبي وعجز الحكومة عن السيطرة على الشعب بمحاولة قمعهم بالقوة بقتل العزل من الأطفال والأبرياء ،وتبعثر أشلاء الجثث وانسكاب الدماء لتستمر المطالبة بإطلاق سراح مانديلا .الأمر الأساسي الذي ركز عليه الفيلم هو رفض مانديلا قبول سراحه المشروط إلى أن يحصل على سراحه عام 1990 رافضاً مرافقة رئيس البلاد له قائلاً: “افتح لي البوابة فقط”. في هذه المرحلة يختلف مانديلا مع قيادة المجلس الإفريقي في دعوته إلى السلام وعدم الاقتتال من أجل السلطة مردداً “لانستطيع أن نربح حرباً لكن يمكننا أن نربح انتخابات”.
الحدث المؤلم في حياة مانديلا في لحظة مكاشفة للذات حينما يمسك صورة ويني التي عشقها بقصة حب تجاوزت جدران الزنزانة وسنوات الفراق وبقيت أسيرة الانتظار الطويل ،ليتخذ قراره بالانفصال بعد أن  اشتدت الخلافات بينهما لدعوتها إلى تصاعد العنف وتعمدها إهانته بخيانته ،يصور المخرج هذا بمشهد مواجهته شعبه وإعلان انفصاله عنها بلغة هادئة تحمل كل الود والحنان.
في المشهد الأخير يتولى مانديلا الرئاسة ليكون أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا منادياً بالحرية للبيض والسود وبالديمقراطية والعدالة ،لنرى ويني في لحظة إحباط ترتشف الشراب.
وهنا يسدل الستار على الفيلم المؤثر الذي حمل الكثير من العنف والكثير من الأسى والشجون وتناول جوانب من حياة مانديلا الذي أطلق عليه لقب “الأب المؤسس للديمقراطية”.
ملده شويكاني