ثقافة

محمد برادة..أسئلة الذاكرة والزمن القادم.. مقاربات وتساؤلات

الحلم في إيقاعه العالي بالروح والذاكرة يتدرج بين الصمت والضجيج اقترابا وابتعادا، يقينا تارة ووهما تارة أخرى في مساءلة الزمن والتاريخ في آخر أعمال الروائي والناقد المغربي محمد برادة (بعيداً عن الضوضاء .قريباً من السكات) الصادرة عن دار الآداب لعام 2014 والمرشحة للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2015، برادة الذي يعد من أعلام ما سمي بالرواية البوليفونية أي الرواية متعددة الأصوات وفق ميخائيل باختين، التي تعتمد على تعدد  المشارب الفكرية واختلاف المواقف الأيديولوجية وتنوع الشخصيات والسارد وراويي الحدث على حساب المونولوج والتداعي المتواتر للسرد، مستعرضاً أصواتاً لنماذج نخبوية تغطي مساحة خمسين سنة خلت من تاريخ المغرب المعاصر عبر أجيال ثلاثة تضمنت  فترة الحماية الفرنسية – ما بعد الاستقلال – المرحلة الراهنة، إذ يطرح نفسه منذ البداية، مؤرخا للأحداث وراصداً لنشاطات التيارات السياسية من خلال علاقة شخصياته بزمن سابق عاشوه يشكل خلفية لحاضرها، عبر تناوب السرد بين الشخصيات المحورية الثلاث التي تمثل النخبة ذات الوعي والثقافة والتمرس بالعمل السياسي، يسلمها للسارد الأول (الراجي) من الجيل الشاب كمثقف عاطل عن العمل، جيل الشباب الضائع والشاهد على العصر، والوارث لخيباته وهو الأمل كذلك حيث يتنقل بين عشيقات ثلاث كتعبير عن الازدواجية والتشتت والضياع، حيث تؤمن له إحداهن فرصة للعمل مع مؤرخ يكلفه ببحث تاريخي للإجابة عن عدة أسئلة تشكل مدخلاً للولوج إلى شخصيات الرواية الرئيسة، ووسيلة لرصد الأحداث والتاريخ وحلم التغيير حيث يتعرف على توفيق الصادقي -1931القانوني المخضرم الذي عاصر فترة الاحتلال الفرنسي، وما بعد الاستقلال الذي لم تمنعه بيئته المحافظة التي دفعته للقيام بأعباء أسرته باكراً بعد وفاة أبيه من إكمال تعليمه في باريس بالمراسلة، واستفادته من التلاقح الثقافي بين فرنسا وبلاده الأمر الذي جعله حذرا وسط الاضطرابات السياسية التي كانت تعم البلاد مطالبة بالاستقلال محاولا انتهاز فرص الحياة كافة من جهة طموحه في العمل والتدرب في مكتب المحامي الفرنسي كلود، ومشاعره المندمجة مع الأحاسيس الوطنية والمطالبة باستقلال البلاد وما نجم عن فهم تداخل مفهوم الهويات، هوية ماضوية تحلم بالمجد البائد – هوية مستجدة أتت مع الاستقلال مدركة أن فكرة الهوية المنغلقة لم تعد فاعلة بالنسبة لحياة الأفراد والشعوب، لذلك نجده يصارع ذاته في مسألة ارتباط ابنته فدوى بالفرنسي رغم مفاخرته بثقافته الغربية، محاولا قولبة الصهر الوافد بأساليب العيش المغربية واعتناقه ديانة الأجداد، هذا التوفيق الذي يبدو توفيقيا في كل مواقفه تلقى صفعة موجعة من حمو ابنته الذي أوضح استياءه من أساليب الضيافة والتفاخر بأصناف الطعام والبهرجة الزائفة، معتبراً انه أهين عندما لم يهتم  مضيفه بالتعرف  على تاريخه بالكفاح والعصامية، موضحاً التناقض هنا في عقلية نموذج الشرقي الذي يأخذ من الغرب ما يتعلق بمظاهر الرقي دون الدخول للعمق، ومع ذلك جعله ينطق بكلام المؤلف أكثر منها الشخصية التي رسم ملامحها، خاصة عندما يجعلها تنطق بخواتم النتائج حيث طغت رؤيته على شخصية السارد في بعض مفاصل العمل.        الاضطرابات والانقلابات السياسية هي سمة أزمنة الرصاص التي تغير جلدها كما يسميها الراوي، كناية عن زمن القمع وكم الأفواه وتبديل الوجوه مشيراً إلى انقلاب الجنرال أوفقير التي جسدت مأساة أسرته ابنته الكاتبة مليكة اوفقير بكتابها (السجينة) لينقلنا إلى الفترة الزمنية التالية الراصدة لجيل مابعد الاستقلال، يجسده شخصية فالح الحمزاوي كصوت للنخبة اليسارية ذات الظلال العلمانية التي أخذت صفة المعارضة، لما أطلق عليه تعبير المخزن قاصدا به من بيدهم السلطة المتنفذة هذه  المعارضة التي ارتضت أن تراوح بين الجذرية والإصلاحية، أو بتعبير آخر الحركة ضمن المتاح أو فن الممكن، لأن من اختاروا المبدئية الصرفة كان مصيرهم السجون والمنافي، وإدراك هذه الحقيقة جعلت الحمزاوي ميالا للحياة بكل تلاوينها وأشكالها وصولا للمتع الروحية والجسدية حتى لو خالفت النواظم الأخلاقية السائدة التناقض بين عقلية جيلين تبرز جلية، واحد يعيش صدمة التحولات في ذهول وسكات وآخر يعبّر عن خيبته بالمزيد من الضوضاء والضجيج، تجلت ملامح الجيل الثاني بشخصية فالح الحمزاوي والدكتورة نبيهة السمعان الطبيبة النفسانية في التفاتة منه لأهمية دور المرأة وأهمية التحرر الاجتماعي في صيرورة عملية تغيير المجتمع، عبر الاتكاء على معارف علم النفس في الدخول إلى عمق الشخصيات  من خلال رؤية أبيقورية منفتحة للحياة والعشق والجسد، مرورا بأهمية مفاهيم الحرية الفردية واستقلالها عن الأعراف المجتمعية المسيطرة، مترافقة مع نشاط سياسي ساد الأوساط اليسارية آنذاك قبل أن يقبل التنحي جانبا وفق توازنات القوى السائدة التي تعطيه هامش الحركة بما يتوافق مع مصالحها.
هذا التقسيم في الحديث عن الأجيال المتعاقبة أعطى تصويراً تقريرياً عنها اقرب إلى ميكانيكية الخبر الصحفي الذي يوثق أخباراً حصلت أكثر منه غوصا في الشخصية الروائية، إضافة إلى أن عقلية الناقد تطغى خاصة عندما يعاود شرح الأسباب والنتائج محاولًا إيصال فكرته إلى القارئ، متخطياً حدود شخوصه مستخدماً أسلوب السرد المعتمد على تعدد الأصوات، مع غياب لرصد الفئات الشعبية والمسحوقة في المجتمع ومستويات وعيها كما أشار بعجالة للفئات المهيمنة على أعلى السلم الاجتماعي والمهيمنة على السلطة ومافيات المال.
محمد برادة صاحب منهج التحديث بالرواية وأساليب السرد من خلال تعددية أصوات الرواة وتناوب السرد والتقطيع عبر كسر الإيهام لدى القارئ مما ينتشله من متعة الذوبان والتماهي في الحدث الروائي، كلما قاربه بدا كلاسيكياً في تصوراته الأيديولوجية إذ يعيد للأذهان مفهوم الالتزام بالأدب وحلم التغيير عبر تجربة الأحزاب اليسارية وإعادة تمثلها في تطلعات العامة، ومتفائلاً في بشائر ربيع نشأ في ظل العولمة لعالم ممسوك من عنقه ومرسومة آفاق المساحة المتاحة لحركته، مبرراً للعنف المتغول في دهاليزه مستذكراً رومانسية مفاهيم العنف الثوري التي سادت في زمن ماض متفائلاً أكثر مما ينبغي لمقدمات نتائجها تنزف دمعا ودم.
الظلال الخفيفة للفنون والموسيقا تبرز في التركيز على فيلم حلم شاعر التي تقيمه إحدى الكنائس مبرزاً التناقض بين أحاسيس المتعة العفوية المنسجمة مع الطبيعة والغرائز، وبين الموروث من التقعيد والقمع الاجتماعي والديني لمظاهر الانتشاء والانسجام مع الفطرة الأولية للكائن مزعزعة قاموس الأفكار الدينية، مروراً بإحياء أغاني العيطة المغربية لإعادة التأكيد على الهوية المحلية للمكان ولأصالة ثقافته في زمن تعمد فيه القوى السوداء لطمس تراث الشعوب وسرقة آثارها وحضارتها فتلاقح الحضارات والاستفادة من إرث الشعوب لايلغي خصوصيتها وتفردها، مع انه تطرف في خصوصيته عندما زاوج بين اللهجة العامية المحلية المغربية واللغة العربية الفصحى والى حد ما الفرنسية، تجلى ذلك في اغلب أعماله مما أضعف من استيعابنا  وفهمنا نحن أبناء الجانب الآخر من القارة الأسيوية لتعابير محليتها محببة لنا مثل ماهي عصية على أسماعنا.
صدر للكاتب العديد من الأعمال النقدية نذكر منها (فرانز فانون أو معركة الشعوب المختلفة 1962 – محمد مندور وتنظير النقد العربي 1979- قراءة في ذاكرة القصة المغربية 1985 والأعمال الروائية مثل (لعبة النسيان – الضوء الهارب – مثل صيف متكرر -حيوات متجاورة)
دعد ديب