ثقافة

رجع أيلول..

تمام علي بركات
رجع أيلول، بداية كلاسيكية جداً لأي حديث سيجلس فيه أيلول الخريفي كطاولة بين اثنين، فالبداية الشهيرة التي ابتدعها الشاعر الراحل “جوزيف حرب”، وغنتها السيدة فيروز: “ورقو الأصفر”، بعد أن لحنها الراحل “فيلمون وهبي”، صارت مذهباً في ذكرى شهر أيلول وخريفه، حتى إن العشاق اعتمدوا هذه الأغنية باتفاق ضمني بينهم، لتكون أغنيتهم المفضلة في بث الشجون واللوعات، وهكذا أو بطريقة أخرى صارت هذه الأغنية هي أغنية الخريف، وعلامة صباحه الأشهر محلياً وعربياً!.
وفي السؤال عن السرّ الذي خلّد هذه الأغنية وربطها بالوجدان الجمعي العاشق، رغم أن كلماتها بسيطة، وتتشابه في مضمونها وشكلها مع مضمون أية رسالة ترسلها عاشقة لحبيبها الغائب: “ورقو الأصفر شهر تحت الشبابيك، ذكرني ورقو دهب مشغول، ذكرني فيك”، سنجد أنه الشغف، شغف الشاعر والملحن والمغني في الخلود، شغف عميق تنعكس صوره على خيالاتهم ومشاعرهم فيما يعنيه الخريف لهم، فالشاعر ذهب نحو أقصى حدود البساطة في التعبير الدلالي، لكنه ترك لخياله أن ينفلت من أية رقابة عقلية وهو يحيك عوالم قصيدته من نسيج لغته البديعة، ليهيم بعوالم الخريف وإيحاءاته، فيأتي بهذه الصور الشعرية الخلابة، والتي هي واحدة من مفردات الخيال الشعري، إن لم تكن المفردة الأهم.
تجلى هذا الخيال العتيق في واحدة من أهم وأقوى وأكثر الصور الشعرية نحتاً واشتغالاً بالقصيدة، فورقات الخريف المتساقطة تحت الشبابيك هي في وجدان الشاعر “ذهب مشغول”، كم هي غنية هذه الصورة، ومحددة، وواضحة، وأنيقة، وكم  هي حميمية هذه الأجواء التي أشاعها “حرب” تمهيداً لصورته الشعرية الأولى في القصيدة،  لتبدو باذخة في الدلال، عظيمة في التصوير، متقنة في التخيل، حيث حشد “حرب” في بداية القصيدة عدة كلمات قادرة على خلخلة الروح فوراً لما فيها من قوة إيحائية عالية “ورقو الأصفر- تحت الشبابيك- ذكرني- دهب – مشغول”، فشاعر بقامة جوزيف حرب يدرك أن مطلع القصيدة هو مفتاح الانتباه الذي قبض على رهافة وحس السيدة “فيروز” لتختار هذه القصيدة كواحدة من الأغاني التي غنتها وجعلتها إرثاً فنياً أبدياً لا يفنى.
صوت فيروز، السرّ الآخر من أسرار خلود هذه الأغنية، هو بالتأكيد ليس مطرح حديث وتحليل ونقاش، ولكن يمكن الإشارة إلى شيء لافت في هذه الأغنية، وهو دمج فيروز وبدقة عالية لصوتها المستعار الذي تغني به عادة، ولصوتها الطبيعي، حيث جاءت “الآهات” التي رافقت الجمل الموسيقية وكأنها آلة موسيقية أخرى فيها جودة من طبيعة نادرة، هذا الدمج على صعوبته وضع كل طاقة فيروز في الأداء، لتجيء النتيجة مبهرة وخالدة، والكلام الذي يشبه في بساطته الظاهرة، وتعقيده الشعري الفذّ كلام عاشقة في رسالة، صار بصوت فيروز هو روح هذه العاشقة ونبضاتها، صار هو هي، وهنا أعود للقول بأن شعرية “حرب” الصافية في هذه القصيدة، قلّ مثيلها بين شعراء المحكية.
إلا أن العامل الحاسم أو المكون الأكثر أهمية في خلود “ورقو الأصفر” هو اللحن، فـ “فيلمون وهبي”، أحد أهم الأعمدة التي قامت عليها الأغنية اللبنانية، بين يديه قصيدة لشاعر كبير ستؤديها رفيقة الصباحات والمطربة الأشهر والأهم عربياً “فيروز”، وهذا للجميل “وهبي” هو امتحان روحي، إذاً بمدلولات حسية، هو مأزق جميل سيحلو له فيه أن يذهب نحو أقصى ما يذهب إليه الموسيقي في فن الإصغاء للكلام، حتى يصبح ملازماً له في منامه وقيامه، وليأتي اللحن الذي وضعه “فيلمون” لهذه الأغنية من الألحان القادرة على الولوج إلى كل مكامن النفس، واستنهاض رغبتها القديمة في “الحدّاء” الأنيق، فالجمل الموسيقية القصيرة والرشيقة جاءت كما لو أنها نبال منوطة تخترق الشغاف.
أيلول على موعده في كل عام، لا يخطئ، ولا ينسى، ولا يتشاغل، وإن حدث وفعل ذلك، فـ “رجع أيلول” تصدح بها حافلة قديمة تتهادى على وقع الذكرى، ستأتي به وتجلسه في صفه بين الفصول، ليقدم امتحانه السنوي، أوراقاً تحت النوافذ تشبه ذهباً مشغولاً، وفتاة عاشقة يضنيها الخريف عاماً بعد عام.