ثقافة

الأشجار واغتيال مرزوق تعود إلى الذاكرة بعد حرق وقطع الأشجار السورية

الشجر الواقف أبداً بصلابة الجذر الراسخ عميقاً في الأرض يتبادل الأدوار مع الكائن السوري في صراع الوجود.. الشجر رمز الديمومة والنماء الحامل للأخضر المتوهج دلالة الحياة وعنوان استمرار نسغ الطبيعة الأولي، كانت موضوعاً لأول عمل روائي للكبير عبد الرحمن منيف منذ أكثر من أربعين عاماً بروايته  الأشهر (الأشجار واغتيال مرزوق) حيث جسد عشق بطله “إلياس” للشجر رمزه المخضوضر بالخصب والحياة دريئة في وجه من قطعوا أشجار القرية وأشجاره، طمعاً بربح سريع بزراعة بديلة للقطن استنزفت المياه الجوفية وأفقرت الأرض، لتعاني الأجيال اللاحقة من قفر الأراضي وتصحر التربة بعفوية الفلاح البسيط وبعد نظره وخبرته بالطبيعة السمحة، بتعبيره عن هيامه بها “حب الأشجار..كيف تتفتح الأشجار في نيسان، أزرارها الخضراء تتفجر باللهب الآتي من أعماق الأرض..”… اللهب الحي  المتوقد بحرارة الولادة لا اللاهب الآتي من الخارج الذي لايبقي ولايذر.
الإنسان والشجر على امتداد الأرض السورية يتعرضان للتدمير والإلغاء حيث حرائق الغابات قبل الأزمة كانت تقارب حوالى 300 حريق سنوياً وتتراوح مسبباتها مابين (الإهمال – التدخين – التحريق الزراعي – ماس كهربائي– الحرائق الناجمة عن البرق) والجهود المبذولة لمكافحة حرائق الغابات متواضعة وارتجالية وغير منظمة إذا ماقورنت بحجم الخسائر الناجمة عنها، فكل دول العالم أمست تستخدم تقنيات متطورة في الإنذار المبكر والمزيد من فرق الإطفاء المجهزة وذات التدريب العالي، وتجهيز مناهل مياه قريبة منها، إلا عندنا ما زالت الأساليب تقليدية وغير كافية، ودائماً ضحيتها الآلاف من الأشجار الحراجية والأشجار المثمرة، ولا تخفى الآثار السلبية الناجمة عن فقدان الغلاف الأخضر للمنطقة، الأمر المهدد بضعف استجلاب الأمطار وجفاف المناخ الناجم عنها والذي يؤدي بالضرورة لضعف وتضاؤل المشاريع الزراعية على اختلاف أنواعها وأشكالها، وضعف مخزون المياه الجوفية الذي يعتمد على مياه الأمطار كمصدر مهم  ورافد أساسي لها. كما تؤثر على الخدمات  المخصصة للبيئة التي توجد فيها فهي في المناطق الصناعية تمتص ثاني أكسيد الكربون كما تمدنا بالأكسجين، بالإضافة إلى ماسبق ضرورتها كمصدات للرياح لحماية المزروعات كما توفر الظل وتمدنا بالخشب اللازم للأعمال الحرفية، وتؤدي الأشجار في الغابات خدمات أخرى هامة للبيئة فهي تفقد أوراقها دورياً وهذه الأوراق الساقطة تتحلل مكونة “دبال” يغذي التربة ويحافظ على خصوبتها، وهي تؤمن درجة حرارة ثابتة تقريباً للحيوانات البرية التي تجد الغابة ملجأ ومكاناً مناسباً لحياتها.
وتعتبر الغابات من الموارد المتجددة والتي يقطع الإنسان الكثير من أشجارها للحصول على الأخشاب، وبالتالي السليلوز اللازمين لصناعة الأثاث والورق والملابس.. هذا الأمر في الحالات الطبيعية والعادية.
الجديد في الأمر ما يحصل هذه الأيام من حرق وقطع للغابات الحراجية والأشجار المثمرة على امتداد الأراضي السورية  في كل من ريف  حمص واللاذقية وريف حماة، حيث أكلت النيران المساحات الشاسعة منها بفعل فاعل ضمن خطة منظمة لأن المساحات الهائلة التي سبق إحراقها قد قطعت بطريقة احترافية بالمناشير الكهربائية بشكل منتظم وعلى رؤوس الأشهاد، وجثث الأشجار تتلوى في مستودعات تجار الأزمات، مستفيدة من تباطؤ وتواطؤ فرق الإطفاء وعدم جاهزيتها بشكل شبه مقصود.
الخسارة التي يتعرض لها البلد تمتد للمستقبل البعيد من تصحير وجفاف وإفقار لتربة الوطن الأقدس، لتزيد من مآسيه ونكباته فاقتصاد البلد يذبح بيد أبنائه غافلين عن الكارثة المحدقة بالبشر والشجر والحجر، حيث تشكل الأبخرة الناجمة عن الاحتراق تربة مناسبة للعديد من السرطانات والأمراض مجهولة السبب تلقي بظلالها السوداء على من لم تلتهمه آلة الإرهاب والتكفير.
عبد الرحمن منيف في “الأشجار واغتيال مرزوق” كان سبّاقاً في استبصار الرعب الناجم عن قطع الشجر هو كمن يقطع حياة، فالشجر حسب تعبيره “رمز الديمومة والنماء، به بدأت  الحياة على الأرض وتستمر، وهو راسخ في كل كائن حي لأنه يمتد عميقاً في جذور الأرض” وسبّاقاً في التحذير ورفع الصوت من أجل الحياة واستمرارها، لكن للأسف وصلنا إلى عمق الكارثة التي طالت كل شيء وكل ما نأمله الحفاظ على البقية الباقية من جنين البقاء، لنرفع الصوت عالياً، أوقفوا  نزيف الغابات، أوقفوا  نزيف الغابات فهل من مجيب؟.
دعد ديب