فبركات الصورة وخبث التوظيف.. وفصول جديدة في متوالية استثمار مصائب الشعوب
راعني ما راع السوريين والعالم كما يزعم!، مشهد الطفل السوري الغارق على شاطئ من شواطئ الهجرة، كما لو أنه طفل غاف في حديقة تعب من اللعب، ثم نام كما ينام الأطفال المتعبون من اللعب لا الغرقى “هكذا كان إيحاء الصورة المتعمد صنعه وتظهيره للنظّارة”، إلّا أنني فضلت عدم الخوض بالموضوع حينها، لأسباب شتى، منها أن المشهد بحد ذاته مؤلم للدرجة التي تجعل حكمك على الموضوع غير منطقي، بل هو منحاز للعاطفة وبشدة، إلّا أن سؤالاً ظل عالقاً كشوكة في الحلق: هذه العذابات السورية لم تتوقف منذ خمسة أعوام، ترى ما الذي جعل الضمير العالمي يصحو فجأة من سباته الطويل أمام آلاف الصور الأخرى لأطفال مزقت أجسادهم الغضة السكاكين والحراب؟ هل هي حقاً صورة الطفل الغارق هي من فعلت ذلك؟ والتي يبدو أن من التقطها بهذا الشكل وبما توحي به، يدرك تماماً أثرها الشديد في النفوس، فما كان الهم أنه يتعامل مع جثمان طفل غارق، بل مع كيفية تطوير عمله الخاص بما يخدم أجندة مشغليه، والذي سيعطيه أيضاً المجد بهذه الصورة، وهذا ما كان، فصورة الطفل الغارق من الصور التي تم وضعها في قائمة أكثر صور العالم تأثيراً، إلى جانب صورة الطفل الإفريقي الذي كان يموت من الجوع تحت مرأى الكاميرا التي تصوّره، والتي صوّرت أيضاً إلى جانبه نوعاً من الطيور الآكلة للجيف، تنتظر أن يموت هذا الطفل نهائياً أو أن لا يبقى لديه قدرة على النهوض لتبدأ بالتهامه حياً، ولا ريب أن المصوّر لم تفته أن يصوّر ما وقع أيضاً، فهذا ما يعنيه وليس هذا الموت القاسي الذي كان باستطاعته أن يمنعه إلّا مادته الخام للعمل إلى جانب شريط التصوير ونوع العدسة.
الطفل السوري الغارق يا سادة لم يكن إلّا ضحية أخرى من ضحايا خسة الغرب ودناءته التي لا يمكن حتى أن تخطر في بال إلّا المعتوهين والمضطربين عقلياً، فهو لن يفوت فرصة كهذه بكل ألمها وقسوتها ليضعها في خدمة أجندته الاستعمارية، حيث بيّنت العديد من الصور اللاحقة فيما بعد كيف حدث ووجد الطفل الغارق، وكيف تم استغلال الموضوع وتضخيمه إعلامياً بشكل كبير ومفاجئ بعد هذا الصمت الطويل، حتى صارت مشكلة اللاجئين السوريين تؤرق حتى خيال شكسبير. من أراد توجيه هذه الطعنة للقلوب عبر ما فعل من معالجة الوضعية التي وجد بها الطفل، هو لا ريب قام بتغيير ثيابه أيضاً ليبدو وكأنه طفل يلعب في الحديقة، فقد أكد لي أحد الخبراء بفن التصوير السينمائي والفوتوغرافي أنه من المستحيل أن تكون الوضعية التي ظهرت بها جثة الطفل الغارق والملائمة لإظهار كل التفاصيل المؤلمة التي ظهرت، هي الوضعية التي التقطت بها الصورة، كما أن الثياب التي ظهر بها الطفل ليست ثياباً لمن يركب البحر، حتى جسده الغض لا آثار غرق تبدو عليه، ليتأكد هذا الكلام فيما بعد، عندما كشفت الكثير من التفاصيل عن مدى الزيف الذي تم دسه في صورة طفل بريء.
إنها الصورة مرة أخرى، واحدة من أدوات الغرب اليقينية في صراعه القذر للسيطرة على العالم، هذا الغرب اللعين الذي يريدنا أن نرى ما يريد وهو واحد من الأسباب الحقيقية لهذه المأساة، هو من صنعها ومن رسم حتى خطواتها القادمة، هذا الغرب المزيف يقف اليوم ليذرف الدموع على السوريين الغارقين، بينما آلاف مؤلفة منهم تقف على حدوده الموصدة في وجوههم بالحديد والنار، وعندما يحاولون العبور إلى الطرف الآخر، حتى الصحفيين فيه يصبحون مجرمين فوراً “كلنا شاهد المراسلة الصحفية المجرية “بترا” التي كانت تضرب الطفلة السورية الصغيرة وهي تحاول الوصول إلى المجر” إن كان هذا حال إعلامييهم ومثقفيهم، فما هو حال الحثالة منهم كالذين خرجوا من معتقلاتهم لينضووا تحت راية الإرهاب الداعشي!.
هكذا هو العالم أمام مأساة السوريين وأوجاعهم لا يريد أن يرى إلّا ما يريد أن يراه، لم ير الأطفال الذين ذهبوا ضحية مجزرة إرهابييهم وعُلّقت رؤوسهم الغضة على الأوتاد وحبال الغسيل في ريف الساحل السوري، لم يشاهد جثامين أطفال مدرسة عكرمة المتفحمة بالفوسفور، عميت كاميراته عن أطفال ضاحية عدرا العمالية الذين تم إلقاؤهم في النار أحياء.
هذا العالم لديه حساسية للصور، فهو يعرف تماماً أي منها يجعله يكسب وأي منها يجعله يخسر، وهو غير معنيّ لا بالضمير ولا بصوت الحق ولا بغيرها من ضروب الخيال المتوهمة عن إنسانية الغرب. لكن أيضاً السؤال الذي لا يجب أن يمر مرور الكرام، من المسؤول عن هذه الفاجعة بالتحديد؟ ألم ير والد الطفل بأم عينه للبحر الذي التهم قبله الكثير من الرجال والنساء والأطفال؟ كيف إذاً يخاطر بفلذة كبده هكذا؟ هل كان مضطراً في تركيا أيضاً بسبب الحرب؟!أليس المسؤول عن هذه الفاجعة أولاً وآخراً هو الأب نفسه؟.
وكأنه هذيان بمدن ذهب غامضة، يذهل بها الناس حتى عن أطفالهم، غير مكترثين إلّا بالوصول إلى المدن التي حلموا بها طويلاً في فترة الأمن والسلم، الحلم الذي صارت الجنسية السورية تحققه بعذاباتها ودمائها، فقام العديد من السوريين ببيع جوازات سفرهم لآخرين من جنسيات أخرى يريدون الوصول لتلك البلدان، ولم يجدوا إلّا انتحال جنسية لاجئ سوري تعاطف العالم معه على حين غرة كحيلة لذلك.
هكذا صرنا ببركة “الثورات” المستوردة حتى بمن يقوم فيها، فالشيشاني صار في هذه الثورة طالب حرية! وأين؟ ليس في بلده أو في بلدان الاستعمار والاستكبار والاستيطان، بل في سورية، وهذه صدفة بالطبع لا أكثر، صرنا إما طعاماً للأسماك أو رؤوساً للذبح أو سبباً لمن يريد أن يتسوّل على حساب قهرنا. إذا صحا ولو جزئياً الضمير الغربي وأقول جزئياً، لأن أطفال اليمن المدفونين أحياء بسبب قصف العدوان السعودي لليمن، لم يحن أوان تصويرهم بعد.
تمّام علي بركات