السيد حُزن

تمام علي بركات
ليس بحاجة دعوة  للحضور، يستطيع أن يصل متى شاء دون أن يعتريه أي قلق من ملامة أو عتاب أو غضب ينتهي بعدم استقباله أو طرده، فهذا لم يحصل معه سابقاً، وهو يثق دائماً بحدسه الذي يخبره بأنه لن يحصل مستقبلاً.
لا يعنيه إن كان الوقت متأخراً للزيارة، ولن يثنيه ضيق المكان وعدم وجود أي سرير إضافي أو أريكة لينام عليها عن الدخول وقضاء ليلته، يدخل ويجلس قليلاً في غرفة الاستقبال منتظراً قهوته الخالية من السكر، قبل أن يمسك بجهاز “الريمونت كنترول” ويبدأ بالتقليب بين القنوات وهو متمدد بكل ثيابه مع حذائه اللامع بشدة على الأريكة.
متعجرف على رهافته، فلا يستأذن أحداً ولا يطرق باباً،لا يجري مكالمة يخبر فيها عن قدومه، ولا حتى يعتذر عن إيقاظه الأطفال الذين تطلب نومهم سبع حكايات متواصلة عن الذئب الذي ترك ليلى والغابة وجاء ليقف على نوافذهم كل يوم منذ خمسة أعوام.
صلف ومغرور لا يقبل النزول إلّا في الأماكن الفاخرة، أربع حجرات فسيحة ومتجاورة يشغلها جميعاً في الوقت عينه.
يرفض وبشكل حازم أن تنخفض سوية الخدمة المقدمة له، ولا يرتضي أن تُقدم له إلّا عن طيب خاطر ودون مقابل، بل سيسره أيضاً أن يكون الذل والخضوع مرتسماً على ملامح مضيفه، الذي لا يستطيع إلّا النزول عند رغباته الحادة النصل، بصمت أحياناً وأحياناً أخرى بنشيج مخنوق أو أنين متقطع، ولا هو حتى بالضيف الثقيل الظل أو بضيف طارئ، لأنه يدرك وبثقة عالية أنه ضيف ضروري، ضيف لا تستطيع ببساطة الاعتذار منه في حال كنتَ مشغولاً بأمور هامة لا تحتمل التأجيل، فهذا الأمر لا يعنيه أيضاً، في إحدى المرات زار أستاذاً منهمكاً في شرح الدرس لطلابه، فطرحه أرضاً أمام التلاميذ، ومرة أخرى زار امرأة توشك على الولادة، فكاد يتسبب بقتل الوليد، عندما تشاغلت عنه أمه باستقبال ضيفها بالعويل والنحيب. لا فرق لديه بين الأيام وأحداثها، فيوم العيد بالنسبة إليه مثله مثل أي يوم آخر، ولا معنى لأسماء الأيام والشهور، فهو يتعامل مع يوم الجمعة وكأنه منتصف الأسبوع، ومع أيلول وكأنه أي شهر آخر، حتى الدهور والفصول والتواريخ ما هي إلّا سجادة حمراء يقف عليها كنجم سعيد في مهرجان الدموع.
لا يشغل باله بحال الطقس، فلا يحمل مظلة إن كان الطقس ماطراً، ولا يرتدي معطفاً حتى والثلوج تعصف بها الريح أمامه، زيه لم يغيره مذ ارتداه أول مرة، رغم أنه لم ينظر في المرآة ليرى إن كان يناسبه أم لا، وما حاجته لذلك طالما أن النفوس مراياه، أما العيون فمالحة.
يبيت أياماً في قصور باذخة، متربعاً بين الديباج والحرير وأشغال الياقوت، وأياماً أخرى يقضي ليلته فيها في بيت فقير وبائس، يبقى يقظاً فيها ولا يغفو، ممعناً في حرمان مضيفه من النوم، كبديل عن الضيافة التي لم تقدم له في هذا البيت الذي أكلته الرطوبة وهجع فيه الحرمان.
لا تشغل باله الحروب ولا أصوات الألم المكتومة قهراً، وهو ماهر في الاستدلال على أي عنوان لا يعرفه، حتى أنه يصل إليه بسهولة ويسر أكثر من صديقه الموت، الذي قد يضل طريقه أحياناً.
لا وقت محدد لمجيئه، لكنه عندما يصل، تبذل له النفوس حناياها، وتهبه الروح بيتها، فإقامته ستطول، وهو كما قلت لا يقبل إلّا أن يكون ضيفاً كريماً ومعززاً، لا يرتوي إلّا من خمرة الدموع، ولا يشبع إلّا من وليمة الأكباد المنفطرة حزناً.
أليفاً تربّى بيننا وهاهو يُولّى علينا سيداً لا راد لمشيئته إلّا الموت.
وحدهنّ الأمهات لا يجدنه ضيفاً غريباً، وحدهنّ من لا يؤجلن استقباله اليوم إلى الغد، فلا يستطعن إلى ذلك سبيلاً. من الصعب عليهن أن يجتمعن ببقية الأبناء، دون أن يكون الغائب منهم هو الأكثر حضوراً.
الأمهات يصبح الله والحزن رفيقهيما الطيبين، يخبرن الله كل صباح عن أحوال قلوبهن، ثم يذهبن لإعداد القهوة لضيفهن الكريم: السيد حزن.
إنه أعز ما يملكن من صديق وخل، فلا مكاناً شاغراً في قلوبهنّ لفحل آخر. الحزن فحل المشاعر.