ثقافة

لا تُصالح

يصرخُ (أمل دنقل) من صفحةٍ في كتابٍ بين يديّ ، يسألني: (في أيّ نكسةٍ أنت)؟ ألمسُ جبينَ الحزنِ، وأعدّ قطراتِ عرَقِ الألم ثمّ أهمسُ: (لم نعد نُحصي.. يا سيّد الألم). يصمتُ طويلاً، أكادُ أخبرهُ بأننا نقرأ قصائدهُ فوقَ جثثنا! لكنني أتريّثُ.
أسمعُ صوتَ أوراقٍ تُمزّق، هناكَ في ظلمةِ غيابهِ ما بين السطورِ الباكية. يسألني: (أما زلتمْ عرباً)؟ ابتلعَ نصفَ روحي، وتركَ لي لعابَ السخريةِ غصّةً في حلْقِ الجواب: (وهل كُنتم كذلك)! بكى حزيرانُ الأول من شفاهِ قصيدته.
يصرخُ (أمل دنقل) فترتجفُ القصائدُ، وتحنّ الأصابعُ إلى السّطور. يصرّ على أسئلتِهِ الغريبة: (ماذا فعلتُم بالشّعر)؟ أفكّرُ في آلافِ الدواوينِ المرميّةِ على أرصفةِ الشّوارعِ لا تجدُ من يشتريها، أفكّرُ في أولئك الذّينَ وجدوا في كتابةِ الشّعرِ أفضلَ وسيلةٍ لملْء أوقاتِ الفراغ، أفكّرُ بالكلماتِ النّافقةِ على شاطئ فمٍ جاهل، أفكّرُ بذاكَ المُبدعِ المُهمَل الذّي يقولُ الشّعرَ العذبَ أمامَ جمهورٍ من الشّجيراتِ والورودِ في غابةِ صنوبرَ، أفكّرُ في المنابرِ تلكَ الّتي استحالتْ في فقهِ الشّعرِ إلى مقابر. أصمتُ فلا جوابَ شافٍ لأسئلةٍ مريضة. يلحّ عليّ لأتكلّم، فأقولُ: (لا تقلق، لم نفعلْ ما يستحقّ الذّكر)!
يتنقّلُ (أمل دنقل) بين سطورِ قصيدتهِ، كأنّها بستانُ فاكهةٍ. يقلّمُ أظافرَ الكلماتِ المسنّة، يشذّبُ لحيةَ المعنى، يصفّفُ شعرَ القافية، يبتسمُ لتلميحٍ مازالَ في ريعانِ الوقت، يهدهدُ الماضي في سريرِ اللحظةِ المُستَنسَخة. أقرأُ كأنني أرى دموعَهُ على خدودِ الحروف، كأنني أعايشُ تمنّعَ الفكرةِ، ومقاومةَ الخيال. أراقبُ حركاتِ يدهِ على الورقة، وأحاولُ فهمَ تلك الكلماتِ المشطوبةِ والمُستَبدَلة. أرفعُ صوتي ليلحظَ وجودي: (لا تُصالح). لكأنَني أثرتُ فيه ذكرياتٍ يؤطّرُ الحزنُ صورةَ فرحِها، وينتقصُ من اكتمالِ حضورِها الموت. يُديرُ ظهرهُ لي، للقصيدة، للحياة، وربّما للوطن. أصرخُ: (لا تُصالح.. لا تُصالح) فيقفُ على منبرِ حزني، شاهراً زفرةَ حنينٍ ويقول: (في أيّ حربٍ أنت؟).
أقلّبُ الصّفحاتِ هارباً من صورةِ وجهه، تلكَ النّظرةُ الّتي ارتسمتْ على مُحيّاهُ قذفتْ جثّتي بعيداً، وتركتْ روحي في مهبّ البكاء. يركضُ عابراً كلّ الهوامش، يطاردُ الجوابَ المُختَنِقَ في حنجرةِ قهري، يشدّني من طرفِ دمعتي، يستحلفُني بالشّعر أن أتكلّم. تخرجُ الكلماتُ مقطّعةَ الأوصالِ على شفاهي، حروفٌ تئنّ، وأخرى تحنّ، يتدحرجُ رأسُ المعنى على حدودِ الخارطة، ويبرزُ سيفُ الدّهشةِ من غمدِ نظراتهِ قبل أن يسمع الإجابة: (لم نعد نُطلقَ الأسماءَ على حروبنا).
أفتحُ قلبي على مصراعيهِ، أُمطِرُهُ بوابلٍ من الأسئلة، أعاتِبُهُ على كلّ حرفٍ كتَبَهُ، على كلّ دمٍ سالَ من قلبِ قارئٍ حزين. يسندُ ظهرَهُ على حرفِ الخاءِ في نهايةِ القافية، يتحدّثُ بما لا أفهم، كأنّه يهذي. يصبحُ الصّوت أقوى وأوضح، أطلبُ من الأفكارِ في رأسي أن تصمت، وتُغادر.
أسمعُهُ الآن: (لا تصالح ولو وقف ضد سيفك كل الشيوخ، والرجال التي ملأتها الشروخ، هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم، وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ….)، ما أجملَها بصوته، بحنينهِ، بحزنهِ المرئيّ كأنّه يستترُ في ظلّ الموت، ويتقمّصُ وهجَ الحياة.
يسرقُني النّعاسُ من يقظةِ الشّعور، أراهُ الآنَ في الحُلُمِ أقربَ وأجمل، تظهرُ فجأةً بيني وبينهُ أسلاكٌ شائكة، عُلّقَ عليها الكثيرُ من الأوسمة، أشعرُ بدبيبِ الفكرةِ يسري في شرايينِ القلم، فتنبضُ الكلماتُ على خطوطِ يدي، أريدُ أن أكتبَ مَعهُ قصيدةً عابرة للأزمنة، متشابهةَ الظروفِ والوقائع، يرفضُ رفضاً قاهراً، ويثبّتُ نظرهُ إلى تلك الأسلاك، ثمّ ينتقي أجملَ وسامٍ ويعلّقُهُ على صدرِ الأرض!.
يعودُ للصّراخِ فأصرخُ معه: (لا تُصالح)، تتكاثرُ الأصواتُ حولي وحوله، عويلُ قصائدَ، وأنينُ أطفالٍ، وجبالٌ مُنحنيةٌ تُودي إليها سطورٌ ضيّقةٌ على جانبيها كلماتٌ عاريةٌ مَسبيّة، يركعُ فجأةً أمامَ ظلٍ دونَ جسد، تنهمرُ الحروفُ من الظّلِ كأنها ورودٌ على رأس الشاعر، يا لحنينِ القصيدة، تغفرُ لكاتِبِها خطيئةَ خَلْقِها، وتحتملُ بعدَ رحيلِهِ سياطَ التكفير.
أستيقظُ على صوتِ سقوطِ المدائنِ من بين دفّتي الكتاب، أجمعُ ما استطعتُ من ضحكاتٍ ودموع تناثرتْ على أرضِ الغرفة، وأعودُ لأتفقّدَ ما تهدّمَ من بيوتِ الشّعر، (أما زلتَ هنا) أنادي كأنني أنتظرُ الصدى أن يُجيب، (وما الفرق ما بين هنا وهناك؟) صمتَ الصّدى وأجابَ سطرٌ غاضب بلسانِ أمل، يغيبُ وجهُهُ عن ناظريّ، أسمعُ أصواتَ أقدامٍ، وتمتمات، وضجيج، تتكوّرُ القصيدةُ على ذاتِه ، لكأنّها تُخفي آثارَ رحيلِ شاعرها، أمدّ يدي لألامسَ السّطور، أربتُ على كتفِ كلمةٍ تبكي، وأحتضنُ قافيةً ثكلى، أصرخُ أملاً في وداعٍ أخير: (هل أصالح؟ هل أُصالح؟)، نسمةُ ريحٍ تقلبُ الصّفحاتِ كما شاءَ لها القدر، فتقع عيني مجدّداً على مطلعِ القصيدة: (لا تُصالح… لا تُصالح).
وسام محمد ونوس