ثقافة

ضمن الاحتفاليات بالذكرى المئوية للإبادة الأرمنية .. كوميداس شاهداً على الإبادة الثقافية

“لم تكن الإبادة الأرمنية للحجر والبشر فقط، وإنما كانت إبادة ثقافية أيضاً” من مفهوم الإبادة الثقافية التي تحدث عنها سيادة المطران آرماش نالبنديان انطلقت أمسية كوميداس في الأوبرا ضمن فعاليات الذكرى المئوية للقتل الجماعي والتهجير والتنكيل بالجثث، ولم يعمل العثمانيون على إفناء الجنس البشري الأرمني، والقضاء على الصروح الحضارية وتراثه الثقافي وإرثه الديني فقط، فكوميداس أحد ضحايا الجلادين الذين قضوا على الفكر الإنساني والإبداع الموسيقي فخسرته الإنسانية جراء وحشيتهم الطاغية،  وأمسية كوميداس التي أقيمت في دار الأوبرا بدمشق مؤخراً بالتعاون بين مطرانية الأرمن الأرثوذكس وهيئة إحياء الذكرى المئوية للإبادة الأرمنية في دمشق تحت شعار “أتذكر وأطالب”،  بحضور وزير الثقافة الأستاذ عصام خليل والسفير الأرمني في دمشق د.أرشاك بولاديان وعدد من رجال الدين المسيحي والمطران آرماش نالبنديان مطران الأرمن الأرثوذكس لأبرشية دمشق،  لم تكن الأمسية للتذكير والتعرّيف بموسيقا كوميداس فقط وإنما كانت رسالة للحفاظ على التراث الثقافي عامةً والموسيقي خاصةً.
تميّزت الأمسية بالتكاملية بين معرض صور ضوئية وأمسية كلاسيكية قدمتها الفرقة السيمفونية الوطنية السورية مع كورال الحجرة بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان، تخللها عرض فيلم وثائقي عن كوميداس مغرق بالرمزية والدلالية، الأمر اللافت أن الجمهور انسجم مع اللحن والكلمة لاسيما التراتيل الدينية التي قُدمت وفق أسلوب أكابيلا رغم أنها تُغنى باللغة الأرمنية.
خسارة مبدع
أوضحت د.نورا أريسيان أن المطرانية قدمت خطوة جديدة، إذ عرضت صوراً لشخصيات عالمية من كتّاب ومفكرين ساهموا إيجاباً بالكتابة عن الإبادة وإنصاف الشعب الأرمني، إضافة إلى الأحداث التي ارتُكبت في أرمينيا الغربية والأراضي التركية مثل عنتاب وأورفة وغيرها مع صور قوافل المهجرّين والمخيمات.
وخصص جانب من المعرض لعرض صور كوميداس الراهب والمؤلف الموسيقي الذي أعاد إحياء أسلوب تعدد الأصوات، ولم يعتمد على السلم الموسيقي إنما على الأجناس الموسيقية، قام بجمع أكثر من ثلاثة آلاف أغنية دينية وشعبية وتدوينها ثم توزيعها بطريقة عصرية، وعمل على الحفاظ على التراث الأرمني ونقله إلى العالمية من خلال وجوده في الدول الأوروبية، كما درس علاقة الموسيقا الأرمنية بموسيقا الشعوب المجاورة، لكن أهم أعماله كان القداس الإلهي لكوميداس الذي ما زال يرتل به حتى الآن في جميع الكنائس الأرمنية في العالم.الأمر المؤسف في المعرض هو صور كوميداس المرسومة بواقعية انطباعية،  تعبّر عن الحالة النفسية السيئة التي أصابته بعد مشاهداته فجائعية الإبادة والمصير المؤلم الذي ألمّ بشعبه ووطنه.
تراتيل دينية وشعبية
بدأت الأمسية بمقطوعات غنائية دون مرافقة الفرقة (أكابيلا)من التراتيل الدينية قدمها كورال الحجرة وبدت القدرة الصوتية الكبيرة للكورال من خلال تعدد الأصوات سوبرانو-آلتو – تينور- باص، منها ترتيلة سر الأسرار، ثم المسيح ظهر بيننا التي تدعو إلى المحبة والسلام، وقد تميّز ليفون عبجيان الذي شارك في عدة مهرجانات للغناء الكنسي بأداء منفرد لترتيلة ارحم يارب وهو يرتدي زيّ الراهب، ثم قدمت لونا محمد غناء منفرداً لأغنيات ريفية، أغنية المحراث، وإنها تمطر.
في القسم الثاني من الأمسية قدمت نماذج من الغناء الأوبرالي بمشاركة الفرقة، منها أغنية شجرة المشمش التي أدتها منار خويص وأغنية الحجل أدتها غادة حرب وبدت حوارية جميلة بين الفلوت وأغنية الربيع التي أدتها سوزان حداد، إضافة إلى مجموعة أغنيات القاسم المشترك بينها كان الرتم الهادئ والرومانسي باستثناء المقطوعة الأخيرة التي عزفتها الفرقة بمشاركة الكورال “طائر الكركي” حيث تغيّر المسار اللحني وجنح نحو الحاد والصاخب بتمازج الآلات النفخية النحاسية مع الوتريات.
معادلة غير مشروعة
تخلل الأمسية عرض فيلم وثائقي عن كوميداس بعيداً عن النمطية والتقليدية المألوفة في الأفلام الوثائقية من حيث التعليق الصوتي والتتابع الزمني والارتدادات الزمنية في مواضع معينة، جاء الفيلم بمشهدية بصرية مغرقة بالرمزية لاسيما في المشاهد الأولى التي عبّرت عن الإحساس بالموسيقا بشغف قطرات المياه بملامسة ورقة الشجر لنراها فيما بعد تسقط في المياه، وكان الفيلم الصامت باستثناء المؤثرات الموسيقية الموحية أشبه بمعادلة بين الحق المشروع والاغتصاب اللامشروع  وبإيحاءات لونية لها دلالاتها بالمقارنة بين عوالم الإبداع وعوالم القتل، ليبقى اللون الأحمر حاضراً في تاريخ الشعبين الأرمني والسوري، لاسيما أن عدوهما واحد، فكتب على الشاشة باللون الأبيض عام 1912ونرى كوميداس في المعهد الموسيقي في باريس ونسمع صوته الحقيقي، وهو يغني لتنتقل الكاميرا إلى فضاءات النوتات الموسيقية الأرمنية، ثم يكتب على الشاشة باللون الأحمر عام 1915لتمرّ الكاميرا على صور القتلى وقوافل المهجرين، فقد اختزل الفيلم عبْر أربع دقائق الأحداث بصورة مؤثرة، جاء الفيلم بتوقيع أرتو نجريان وبإشراف المطران آرماش نالبنديان.
التواصل بين الثقافات
قبل الأمسية توقفت “البعث” مع السفير د.أرشاك بولاديان فتحدث عن المسيرة الإبداعية لكوميداس الذي حاز على شهرة عالمية وسُمي المعهد العالي للموسيقا في يريفان باسمه، كما تحدث عن دور الفن كجزء من الثقافة وعن قوة تأثيره على الفكر الإنساني، ومن هذا المنطلق شدد على التواصل بين الثقافات، مؤكداً أن أمسية كوميداس رسالة من الشعب الأرمني الذي تعرض للإبادة إلى الشعب السوري الذي يواجه الإرهاب.
تجديد المطالبة بالاستنكار
وبيّن المطران آرماش نالبنديان أن أمسية كوميداس تأتي ضمن الفعاليات الكثيرة التي أُقيمت لإحياء ذكرى الإبادة المئوية على الصعيد الكنسي والديني والسياسي والعلمي والثقافي موضحاً مفهوم الإبادة الثقافية التي كان الراهب والموسيقار كوميداس ضحيتها، وأن هذه الأمسية مناسبة للتذكير بالحفاظ على التراث الثقافي الوطني والإرث الحضاري رغم مواجهة سورية للإرهاب.
التقاطع مع سيفو
وتابع الأسقف جوارجيوس كورية بأن الإبادة التي تعرض لها السريان مجازر سيفو التي تتقاطع مع الإبادة الأرمنية التي حدثت في الفترة ذاتها وبالأدوات ذاتها ومن قبل عدو واحد،  لقتل وإجلاء عدد كبير من السكان الأصلاء عن وطنهم وتاريخهم وأرضهم وإعطائها لشعوب أخرى، وأكد على دور السلام والتعايش بين جميع أطياف المجتمع.
الاهتمام بالتراث اللامادي
أما د. سركيس بوزوزيان فتحدث عن الإبادة الثقافية التي تعرض لها الأرمن وقضت على الأوابد والصروح الحضارية والآثار التاريخية، وأكد فشل العثمانيين في إبادة الإبداع، وأمسية كوميداس دليل على استمرار الثقافة الأرمنية، وفي جانب آخر تحدث عن ضرورة الاهتمام بالتراث الثقافي المادي واللامادي.
ملده شويكاني