“الماء”..بطل الأساطير وأصل الوجود في محاضرة لوزيرة الثقافة السابقة
لم يكن الفكر يوماً وليد حضارة واحدة إنما ثمرة مشتركة لحضارات مختلفة بحثت وتآلفت وتضادت لتنج فكراً أصيلاً انتقل عبر التاريخ، وكان للماء على الدوام تلك المكانة الرفيعة كمصدر للحياة، وحوله نسجت الكثير من الأساطير. من هنا كانت المحاضرة الشيقة التي ألقتها د. لبانة مشوح في مجمع اللغة العربية بدمشق تحت عنوان “الماء في ثقافة الشعوب”.
بداية تحدثت مشوح عن طبيعة العلاقة الجدلية التي ربطت الماء بالثقافة عبر التاريخ ،فكما أن الثقافة ماءُ الحياة ونبع الإبداع فإن الماء ينساب إلى جذور الثقافة ليخصب تربتها لغة وصوراً ورموزاً وطقوساً، معتبرة أن الصورة الأوضح لتلك العلاقة تظهر في أساطير الشعوب وآدابها، وما انعكس منها على طقوسها وعاداتها وتقاليدها وفنونها بمختلف أشكالها ومدارسها ويمثل الماء عنصراً أساسياً في الثقافات القديمة حيث يشكل إحدى ركائزها الغارقة في الرمزية، فيما يعرف في علم تصنيف الأساطير بـ “الأسطورة العليا” كأسطورة الخلق الأول وأسطورة الطوفان فهو فيها العنصرُ الذي يبدأ به الخلق ومصدر للحياة. وهنا قدمت مشوح العديد من الأمثلة لمكانة الماء في الأساطير القديمة منها الأساطير الكنعانية والإغريقيةُ والرومانية. وأشارت إلى أن كتب تاريخ الفكر تشير إلى أن الفيلسوف اليوناني طاليس هو أول فيلسوف في التاريخ عدّ الماء جوهر كل مادة في الكون وأساسَها الأول، ليضيف إليه أقرانُه من بعده النار والتراب والهواء، لكن الحقيقة أن الفارسي زرادشت كما ترجِّح آخر الدراسات قد سبق طاليس إلى ذلك، فالفرس قدسوا الماء والنار والتراب والهواء وهو ما أخذه عنهم لاحقاً علماء الطبيعة الإغريق، أما البابليون فقد كانوا الأسبق إلى التمعّن في أصل الوجود وربطه بالماء وصلة الماء بالقداسة كما قدمتها مشوح في المحاضرة مغرقة في القدم وتنتح جذورها من حضارات سادت ثم بادت لكنّها ماثلة بمعتقداتها ومفاهيمها وعاداتها في الذاكرة الجمعية كما في الأساطير السومرية واليونانية والهندوسية وبالحديث عن الجانب اللغوي لهذا التجذّر. وتناولت مشوح في محاضرتها كتاب “دمشق الأسطورة والتاريخ” وفيه شرح الدكتور محمد محفّل في معرض حديثه عن الصلة بين جذر (ق د س) وجذر (ق د ش) في العربية والكنعانية القديمة والوسطى، وفي الآرامية بلهجاتها المختلفة مع تبديل السين شيناً وبالعكس، ففي الكنعانية والآرامية بحسب الدكتور محفّل “قدُسَ” معناها “طَهُرَ” و”تبارك” ومنها القدس والقدّيس والقداسة والقَدوس وكثيرة هي أسماء الأشياء والأماكن المشتقة من هذا الجذر والمرتبطة بمفهوم القداسة المتّصل غالباً بالماء، كما نجد الجذر نفسه في كثير من أسماء الأماكن الواقعةِ كلِّها عند مصدرٍ مائي أو على مجرى مائي كمدينة قدسيا وتل قادِش ووادي قاديش. ولفتت مشوح إلى أن صورة الماء في ثقافة الشعوب تحمل تضاداً ظاهرياً يدفع بمدلولاتها إلى طرفي نقيض فبينما يظهر الماء رمزاً للحياة والطهر والتجدد يتبدى أحياناً أخرى رمزاً للضياع والفناء، مجّسداً مفهومين متناقضين في آن معاً: الخير، والشر؛ والثواب والعقاب هذا التضاد في الأدوار اختزلته الأسطورة البابلية إذ امتزج الماء الحلو بالماء المر فكان العالم السفلي. وفي الديانات السماوية علاقة التضاد واضحة في مفهوم الماء وارتباطه بمعجزات الاستسقاء والاستشفاء حيث تبوأ الماء في الديانات السماوية الثلاث المكانة الرفيعة التي يستحق، فعُدَّ أحدَ أسرار الحياة، وهبةَ الله ونعمتَه،ّ ووسيلةَ الإنسان للتطهّر والاستشفاء والاحتماء، ورمزَ التجدد واللغة العربية هي واحدة من أكثر اللغات التي كرّست بفصاحة بالغة ذاك الرابطَ الوثيق بين الماء والحياة، فنجد الماء والخِصب والحياة مختزلة في كلمة واحدة هي “الحيا” (بالألف الممدودة) وكذلك الأمر في كلمة الغَيثُ.
وذكرت مشوح بعض الألفاظ الدالة على الماء بحسب كميته وموقعه وصفاته، كالسَّحَل والسَيْع والطَّغْم والغّمْر والوَجْد وهناك أسماء لتمييز المطر منها الصَّيِّبُ والصَّوْب، والوّدْق والغَف والعُبَابُ بعد هذا العرض لأهمية الماء في ثقافات الشعوب المتنوعة، كما أكدت ضرورة أن تحظى هذه الثروة الأعظم في حياتنا بالاهتمام من حيث استثمار مصادره والمحافظة عليه من الهدر والتلوّث محافظتنا على وجودنا وأوطاننا.
جلال نديم صالح