في كتاب “الرابعة بتوقيت الفردوس” للمهند حيدر مـحمد عـبـد الـعـزيـز.. تـميز خـاص في مـسـيرة الـسينمـا الـسـوريـة
تغرينا مشاهدة الأفلام السينمائية كثيراً، نتابعها بشغف ونعيش معها تفاصيلها الكبيرة والصغيرة ونتماهى مع أحداثها، وكأنها أحداث حقيقية تعيشها شخصيات تشبهنا لدرجة قد نعتقد أحياناً أن الفيلم يتحدث عني أو عنك أو عن أحد نعرفه جيداً دون أن ندرك ولو للحظة أن هذا الفيلم هو من صناعة مخرج وكاتب وممثلين، ولم يظهر بالشكل الذي تابعناه إلّا بعد مراحل عديدة ساهم في إنجازها أشخاص كثيرون، بعد أن كان مجرد كلمات على ورق، وبعد أن عاش مسارات عديدة تتبدل وتتغير إلى أن يرى النور لتبقى كواليس أي فيلم مخزن أسرار نادراً ما يتم الإفصاح عنها، وهذا ما فعله المهند حيدر في كتابه “الرابعة بتوقيت الفردوس-اللغة السينمائية الجديدة” الصادر حديثاً عن المؤسسة العامة للسينما، والذي تحدث فيه عن كواليس إنجاز الفيلم السينمائي “الرابعة بتوقيت الفردوس” للمخرج محمد عبد العزيز وهي كواليس مليئة بالأحداث والتفاصيل المشوقة التي لا يراها عادة الجمهور لنكتشف من خلال هذا الكتاب أن الفيلم السينمائي لا يولد بسهولة ولا يُنجَز لمجرد التفكير فيه.
لغة سينمائية خاصة
أما لماذا اختار حيدر فيلم “الرابعة بتوقيت الفردوس” ليكون محور هذا الكتاب فهذا لا يعود برأي حيدر إلى أهمية هذا الفيلم باعتباره الأحدث في مسيرة المخرج محمد عبد العزيز فقط، ولا في مدى الجهد المبذول فيه طوال ما يزيد على العام بل للأسلوب المتبع في خلق مثل هكذا عمل فني عبر بناء محكم من التفاصيل الصغيرة التي لا بد أن تؤدي إلى تميز خاص في مسيرة السينما السورية. ولعلّ أول ما يبرز في هذا الفيلم برأيه اللغة السينمائية الخاصة، ومن معايشة حيدر لولادة هذا الفيلم منذ لحظة كتابته وحتى الآن بحكم الصداقة العميقة التي تجمعه بمخرجه يشير إلى أن كل تفصيل من هذا الفيلم استغرق من التفكير والعمل والجهد ما لا يمكن تخيله، فمن عنوان الفيلم الذي بدأ التفكير به قبل حوالي العام عند الانتهاء من كتابة السيناريو الأدبي، ولم يتم الاستقرار على الصيغة النهائية له إلا قبل مدة وجيزة من انتهاء عملية المونتاج، إلى اللقطات المختارة للتصوير والتي قام المخرج بأخذها بأكثر من أسلوب فني وطريقة وعدسة وزاوية، ليصل عبر المونتاج إلى بناء محكم من هذه التفاصيل عبر إيقاع خاص، مبيناً حيدر أنه رأى أكثر من خمس نسخ مونتاجية للفيلم خلال الفترة الماضية، فعبد العزيز كان في بحث دائم لصياغة لغته السينمائية الخاصة في هذا الفيلم، ولم يكن ليرضى بأي تفصيل يرى أنه بالإمكان تطويره.
وأوضح حيدر أن المتابع لمسيرة المخرج منذ فيلمه الأول “نصف ملغ نيكوتين” 2007 مروراً بـ “ظلال النساء المنسيّات” 2008 وصولاً إلى “دمشق مع حبي” 2010 وحتى آخر أفلامه “المهاجران” يستطيع تلمس خصوصية أسلوبه الفني والإخراجي، فالانشغال بالصورة والإيقاع وتميز الأداء لدى الممثل، إضافة إلى حالة الغنى في المشهدية والثقة في الحالة الانفعالية يميز لغته السينمائية برأي حيدر ونستطيع عبر ذلك تلمس مسيرته وسعيه الدائم لتطوير تجربته، فهو في “دمشق مع حبي” مشغول بالصورة والبناء الجمالي للقطة وفي “ظلال النساء المنسيات” نرى رخامة الأداء وجو الحالة الانفعالية الثقيلة، أما في “الرابعة بتوقيت الفردوس” فهو يمضي لبناء قصيدة عبر كثير من التفاصيل المتشابكة المنسوجة سوياً بإيقاع يميز الفيلم ويمنحه روحاً خاصة به، منوهاً حيدر في هذا الكتاب إلى أنه وفي كل مرة كان يتناقش مع عبد العزيز كان يرى في عينيه وهج الكاميرا التي تنسج حكايته الخاصة في هذا الفيلم ولذلك هو في “الرابعة بتوقيت الفردوس” يحقق نقلة نوعية في مسيرته السينمائية، فعلى الرغم من تميز أفلامه السابقة وخاصة “دمشق مع حبي” فإن نضوج التجربة في “الرابعة بتوقيت الفردوس” يتخطى التطور الطبيعي للفنان السينمائي ويرمي به أمام تحدٍ حقيقي يتمثل في المحافظة على خطه الصاعد والقدرة على متابعة تطوير لغته السينمائية، دون الاصطدام بسقف الإمكانيات من جهة ومن جهة ثانية فإنها تضع مخرجي السينما السوريّة بمختلف اتجاهاتهم أمام تحدٍ تنافسي سينمائي شريف.
وختم حيدر مؤكداً على أن عبد العزيز ذلك الشخص الهادئ قليل الكلام الذي لا يفصح بمكنوناته بسهولة، لكن ابتسامته تخفي ألقاً وأفكاراً لمشاريع قادمة يوماً وأنه ليس بالسهل اختراق أفكاره ومعرفة ما يريد إن لم يفصح عن ذلك صراحة وهو نادراً ما يفعل، لذلك بيّن حيدر أن ما سهّل مهمته في إنجاز كتابه هو الصداقة العميقة التي جمعته مع عبد العزيز لأكثر من خمسة عشر عاماً، فهذه الصداقة القوية مكّنتهما من أن يفهما بعضهما بسهولة، والأيام التي عاش تفاصيلها كل واحد في حياة الآخر في هذه السنوات الطويلة خلقت بينهما نوعاً من التواصل الفكري الصوفي بحيث سهّلت له إنجاز هذا الكتاب مع معايشته القريبة لكافة مراحل فيلم “الرابعة بتوقيت الفردوس” منذ كتابة السيناريو والتصوير وحتى انتهاء العمليات الفنية له.
أمينة عباس