سمير القنطار أيقونة الشهداء طلقة وعي لأزمنة أخرى
جاء من أزمنة المقاومة كلها، فارس ضوء في إثر عتمة مستبدة، وطلقة صباح، في إثرها كانت النهارات الفلسطينية والعربية أكثر إشراقاً، هي نهارات المقاومة، وصيرورات روح الكفاح المتوهجة منذ شرارة الاحتكاك مع المشروع الصهيوني المغتصب أرضنا.
في ذلك الصباح من عام 1979، كان سمير القنطار يقتحم مع مجموعته الفدائية مستوطنة نهاريا شمال فلسطين، ويُبلي بها، وهي السنة ذاتها التي اعتُقل بها عندما أصيب جراء تلك العملية البطولية، ليقبع في السجن الصهيوني وينال خمسة مؤبدات، مضافاً إليها 47 عاماً، ليتم الإفراج عنه في إطار صفقة تبادل للأسرى بين الكيان الصهيوني، وحزب الله في 16/ تموز/ 2008، لكنه يعود إلى ساحات المواجهة الضارية، ذلك الفدائي الجسور الذي آمن بالمقاومة نهجاً، ورؤية، وحتمية انتصار، منذ وعى وهو في الأسر امتداد ذلك المشروع على الأرض، وعلى الإنسان، ومنذ أن وعى المقاومة سبيلاً للخلاص من الرجس الصهيوني، وفلسفته: إن في المقاومة حياة لمن آمنوا بأن الفجر تولد منه آلاف الصباحات، هو حامل وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، تكريماً لمسيرته الكبيرة والنابضة بالعلامات الفارقة، حينما منحه إياه السيد الرئيس بشار الأسد، عرفاناً لإبداع المقاومة، وتعدد أشكالها، فمن الكلمة إلى الرصاصة، وما بينهما وعي حارس، وفطنة منتبهة إلى أن فلسطين هي المستهدفة أبداً، في حجرها، وبشرها، وتاريخها، وهويتها، وكان وعي المقاوم– القنطار- بأن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة، فهو قوة مثال الروح في أزمنته المقاوِمة، ليعود لمحوره مقاوماً عنيداً وفذاً، عندما استُهدفت سورية، فهو المتأبي إلا أن يكون ظهيراً للمقاومة، وحامياً لظهرها في مقارعة الظلاميين، أدوات ذلك المشروع الصهيوني، فهو اللبناني الفلسطيني السوري القومي، من ظلت الجولان في وصاياه هي حارسة السر، ليكون عين المقاومة، وسادنها للتحرير.
إنه الفدائي الجسور الذي اعتاد أن يخط في الآفاق آياته، الفدائي الذي كانت فلسطين أبداً نشيده الطالع من الآلام، ومن شقائق النعمان الذين امتدت ظلالهم فوق الأرض العربية، ففي عيني ذلك المقاوم مازال الألق يرسم حدود الشمس وينهض بالقلب نابضاً، لتكون المقاومة شكل الحياة وأسلوبها وإبداعها الذي لا يُستنفد. وبانتمائه للمقاومة الفلسطينية ظلَّ أميناً على ثوابته التي لم يُحد عنها قيد أُنملة، فهو الساهر على غدٍ مُرتجى والحالم الكبير بأنه لا بد من فجر سينبلج ذات مقاومة، رآها واستشرفها الآن هنا في مقارعة الظلاميين امتداد ذلك المشروع فلن يُكسر ظهر المقاومة، وسورية في القلب ثقافة وفكر المقاومة، من جذبت عُشاقها الكبار فقاماتهم بحجم الوطن، وبحجم قضية ما انفكت تظل هاجسهم الأكبر المقيم، هي جدليات المقاومة والتحرير واستحقاق النصر حينما يذهبون شهداء.
القنطار شهيداً، على ذات الدرب مشى وبوعيه أنه مشروع شهيد شأنه شأن من مضوا قبله وبعده، لكنه واسطة العقد ومهماز بطولة، لا يختزلها بيان اللغة الصريحة، كاسمه المتعالي على المحو والنسيان، فهو من جاء من ذاكرة المستقبل لحظة مضيئة ستملأ الوديان سنابل، هو كثافة أزمنة المقاومة ومساراتها، وفقه الرصاص، ففي مقامه شهيداً نرث لغته الواضحة بما يكفي، للنهوض والذهاب إلى المتسع من الحياة، هو عنوان قضية لا تُطوى أوراقها ولا تُمحى من الذاكرة فصولها، حينما عَبَرَ كل مساحات الألم، وقلبه النابض بعشق التراب وبقداسة كل ذرة فيه، وروحه المترنمة في فضاءات وطن مسلوب مازالتا حجر الرحى في أبجدية المقاومة والحياة وجدلية العلاقة بينهما، فكيف نُفسر إذن إلى أين يذهب الشهداء ذلك الصباح، مضرجين بالعشق الأزلي، وبكثافة الحياة التي تتدفق بين أصابعهم كنشيد طالع من أبجدية الضوء، وهي من اختارتهم ليكونوا على دربها، وفي رابعة النهار، مقاومين، والآن هنا والآن هناك، آياتهم الكُبرى وتَحّول أجسادهم إلى نهار كثيف باذخ الشجر، متعدد الميلاد فكيف يأتي بغير مقام، ألا فإن مقام الشهيد هو مقام الياقوت، وبهجة “النانرج” وسر الياسمين، فمن «عبيّة» جاء الجنوب إلى الجنوب بمجد القول، فمن الجرح ابتدأت بروق كثيرة، لكن أغزرها بتمام الاسم والعنوان سمير القنطار، في أكثر من مقام توزّع على البلاد نشيداً، وإيقاعه خطا الشهداء في مساراتهم الجديدة وهم يعبرون الوقت خفافاً إلى مجدهم العالي، إلى ما يجعل اللغة انتباهاً أخيراً، إلا أنَّ حضورهم يُستعاد بائتلاف الحبر والدم اللذين يشيران للبوصلة بأن تظل تُشير إلى فلسطين، كذلك كانت بوصلة قلبه ووجدانه من تشير إلى فلسطين، تلك التي ذهب إليها، هكذا يعود الشهداء إلى أرض الشمس مبارِكين هبات شعبها المباركة، ويصبح لكل هبة متجددة ذلك المعنى الأثير. فمن يقف الآن عند مجد الشهداء وسيرهم الملونة بما يكفي الأبجدية، لكي تظل نهوضاً وارف الظل المضيء بنثاراتهم المضيئة: إن فلسطين هم، هي أسماؤهم حينما يصبحون على وطن، ففي وصاياه ظل الجولان يرنو للتحرير، فهو من طلب أن يُهدى النصر مكللاً بالغار يُكتب على شاهدة قبره، لتكون اللغة بتمام وضوحها هنا يرقد سادن المقاومة وأيقونتها، وهو إلى فلسطين أقرب حينما تصبح «عبية» ملء القلب قمراً على الجولان على الجنوب وجنوب الجنوب، وصورة لنصر سورية.
أحمد علي هلال