ثقافة

كـمـا لــو.. وصـيـّة!

غسان كامل ونّوس

ليس عادياً، وإن تكرّر، بل لأنّه يتكرّر، في الزمان والموائل، في الدرجة والمستوى والحال الأقصى، ولم يكن سهلاً، ولا مألوفاً، وصار عرفاً، ووعداً، ومجداً، وخلوداً.
بضعة من أبطال، نفر من رجال خلّص، صدقوا ما عاهدوا الشعب والأرض والحياة عليه، فقرّروا المكوث في الحصار، إلى أن يحدث ما يمكن أن يكون مفعولاً:
“اذهبوا يا رفاق الحَرّ والقرّ، السرّ والمُرّ، يا رجال الكَرّ والفرّ، القصف والعسف، يا بشر الرجاء والدعاء، اذهبوا يا رفاقي في دروب النجاة، وقد كانت، وماتزال رغم قصرها عصيّة، ومفازات الوفاءِ، وليست لأمثالكم قصيّة، هناك من يساعدكم، من ينظُرُكم، ينتظركم، فقد يُكتب لكم عُمر، وتكون لكم نجاة! أمّا نحن، فمقيمون ما أقامت الروح في ما تبقّى من جسد، باقون في هذه البقعة من فؤاد، بما بقي من آخر زوّادة من ذخيرة، وآخر رصيد من صبر، وتحمّل، وعناد، كي نحمي ظهوركم، ونغطّي مسيركم الأخير إلى الحياة، نستودعكم شهقة الأهل، وتوق الأشقّاء، ولهفة الأبناء، وتشبّث الأحفاد، وشوق المحبّين.
نوصيكم بالوصول، لأنّنا نعي معناه، ونعرف أهمّيّته، لأنّنا تمنّيناه، وها نحن نفتقده، ونتمنّاه لكم، وهو آخر ما نتمنّى، بعد أن حصلنا، أو نحن على بعد أويقات من حيازتنا الشهادة! ونعرف أنّكم قاربتموها مثلنا، وتتركوها مكرَهين لنا، لا توصونا، فنحن من يؤدّي الأمانة، نحفظها، ونصونها، ونفتديها.
لا توصونا، فأنتم تعرفوننا، نحن منكم، بعضكم الذي يفرح من أجلكم، ينتشي بخلاصكم، ولن نوصيكم، نعرفكم، فأنتم بعضنا الذي يتداعى لمآلنا بالذّكر والعرفان، قولوا للذين يشوّشون، يشمتون، يشوّهون، ينغّصون، نعم، جعنا، وعطشنا، واشتقنا، ونعسنا، وتعبنا، وتألّمنا، وافتقدنا الدفء إلّا من نار القذائف وأجيج الحماسة، واضطرام العزم، وجيشان الإرادة.
لكنّنا لم نيئس، لا نيئس، لم نعتب، لأنّنا نقدّر.
لم نغضب إلّا على من كان السبب، ومايزال، وهو ليس قريباً، وإن كانت تربطنا به رابطة الدم، ولا أليفاً، وإن عشنا معاً سنين وعقوداً، ولا نصيراً، وإن جمعتنا مفردات العقيدة، ومسمّياتها.
اشرحوا لهم ولسواهم، لم نحسب الأشهر ممّا تعدّون، ولا الساعات، فتوقيتنا مختلف، وحساباتنا مغايرة، نعم، إنّنا من لحم ودم، ولنا مشاعر وأحاسيس، وأمان وأحلام، كنّا كذلك، وبتْنا من عهد ووعد، وصبر وذكرى، وغدونا رمزاً ومهراً لا ثمن ولا أغلى، ولا قيمة أعلى!.
اصرخوا في وجه الذين يساومون، يبيعون ويشترون: لسنا بضاعتكم، ولستم من نسيجنا، ولن تسمعوا نشيجنا، لا لترتفع ديّتنا، فنحن نعرف قيمتنا، وهم يعرفون، الجميع يعرف أكثر ممّا تقدّرون!.
لا تستُروا، يا رفاق العمر الذي كان، ولا تتستّروا، ولا تتسارّوا، فما كان منكم ومنّا ما يُخجل، ولا تتردّدوا في القول، فما تردّدنا وإيّاكم في الفعل، وما كنّا بغافلين، ولا مغفّلين، ولا تتواروا بالبوح، ولا بالحقّ، كفاكم/كفانا كتماناً وخسراناً، وما بخلنا ائتماناً، ولابأس أن تنشغلوا بأوقات الألفة، وتُراجِعوا أماني استعادتِها التي كادت تكون مستحيلة، وأنتم تعيشون الرجوع من بعيد بعيد، والخروج من شفا حفرة، وعين منظار، وشقّ فوّهة بندقيّة!. وإن بقي لديكم وقت، وقد لا يبقى، هناك، في ذلك الحيّز الوجيع من الرؤى والإحساس، فصِلوا ما انقطع مع الناس، أو كاد، من أنفاس ونفثات وزفرات، وإن بقي لديكم حنين، وسيبقى، أوصِلوه إلى رَبْعِنا، إلى من غيابُنا عنهم عزيز هذه العشيّة، وباقي العشيّات، أوصِلوا شهقاتنا إلى “أكبادنا التي تمشي على الأرض”!.
وإن بقيت لديكم مشاعر، وستفيض، قولوا لأهلنا ما تعرفون عنّا، قولوا ما تشاؤون، فما عاد من أمر خفيّ، ولا من شيء دفين، فلسان الحسود، قبل الوَدود، مدرار! وعيون الحقد والدهشة الجاحظة، أكثر من الأحداق الشاخصة الدامعة، وما من شيء قمين بأن يظلّ جمراً تحت الرماد، أو مدّثّراً بالأفكار والعواطف، أو في ثنايا الركام والحطام.
يا إخوة الجرح والرعشة والحسرة والغبطة والخيبة والنشوة والظفر الأكيد، ولو بعد حين.. عيشوا، وقولوا، وقُوموا، وافعلوا، واشغلوا، وشاغلوا، وسائلوا، وقاتلوا الذين ظلموا، ويظلمون، وواجهوا المدّعين والمنافقين والساكتين عن الحقّ، وممتهني العقوق والنكران، وجاهدوا في سبيل الأرض والعرض والحقّ والشرعة والإنسان!.