التماهي مع الحلم في لغة إدريس والحوارية في لغة طبرة
دأب بعض كتّاب القصة الكبار إلى قراءة قصصهم الجديدة في ملتقيات قبل أن تدرج ضمن دفتي المجموعة القصصية وتشغل حيزاً فيها ،لإيجاد حالة من التواصل والتحليل والنقد المباشر كما فعل الكاتب والقاص عبد الفتاح إدريس إذ قرأ قصته الجديدة “متواليات حالمة”،وكذلك الإعلامي والقاص رياض طبرة الذي قرأ قصة “راضي2” في ملتقى الثلاثاء في اتحاد الكتّاب العرب الفلسطينيين مؤخراً،وقد أدرجتا ضمن برنامج حافل لقراءات شعرية وقصصية ،وبعيداً عن الآراء الانطباعية والنقدية التي دارت بين الحاضرين ورئيس الجلسة الكاتب أحمد جميل الحسن ،نجد أن كل قصة اتسمت بخصائص مختلفة وقدمت الجديد في لغة القصّ .القاسم المشترك بينهما هو الاغتراب وتبعاته ،الأمر اللافت أيضاً تقديم القاص عبد الله عيسى قصةً ارتجالية وبلغة فصيحة خالية من الأخطاء تعتمد على الحكائية المستوحاة من الواقع.
الأجداث المتحركة
لم تكن قصة الكاتب عبد الفتاح إدريس “متواليات حالمة” قصة عادية كانت قصة طويلة منسوجة بروح الرواية ،نلمح فيها تغييراً واضحاً بأسلوب القاص من حيث المضمون ،إذ ابتعد عن أدب المقاومة وقصص العمليات الفدائية، ليهمن السارد بضمير المتكلم على قصة حبّ صامتة تتماهى بين الواقع والخيال “لقد بدأ الأمر خدعة وأضغاث أحلام فهو يجلس مقابله مباشرة ،وقد بدا له مكاناً مكتظاً بالطاولات والناس هو مجرد مقهى من المقاهي الشعبية”،تمكن من خلال السرد بتضمين الشخوص الرئيسية للقصة ،أما من حيث الحبكة المشغولة بعناية بأدق التفاصيل والوصف المرافق لها ،نقف عند تقاطع واضح بين متواليات حالمة وبين قصصه السابقة يبدو في تصويره شخصية رجل الأمن والوقوف عند الحاجز” أي شخص عدا أن يكون شرطياً أو عاملاً في أمن البلاد ،وليس المكان حاجزاً أمنياً على الإطلاق فهو أفق واسع “ ،وفي الأسلوب السردي الشعري والصور الشفيفة والتشابيه حتى يخال إلى المتلقي أنه يصغي إلى قصيدة، تمتد إلى وصف الأمكنة والأزقة التي لاتوصل إلى مكان أمني وإنما إلى مكان آمن خفي عن الأنظار ،الجديد في القصة هو الحداثة القصصية بحركية القصة ومضي السرد بين مستويين مفتوحين لفضاءات سردية تتماهى بين الحلم والواقع ،والإبحار في البوح للذات وتجسيد الصراع الداخلي للشخصية في رسم مشهدية الحب الصامتة في المقهى المتخيّل لنعرف في النهاية أن المكان هو محل تجاري وأن الفتاة الجذابة الجميلة ليست السيدة مالكة المحل وإنما مجرد عاملة ،وأن الرجلين ليسا من رجال الأمن وإنما صاحبا المحل ،ليبقى المكان هو المنطلق الأساسي للقصة مع النهاية المفتوحة لها ،وبرع الإدريسي بالوصف الدقيق للأشياء مثل المقهى والكرسي الخشبي والطاولة القديمة مع إيضاح علاقتها بالمحيط العام لنصل في نهاية العتبة النصية إلى حضور البطل في بلاد الاغتراب بين وصف مشاعره المشتتة الضائعة وبين الاشتياق إلى الوطن والوحدة التي يعانيها ،لنقف عند حدود إسقاط واضح لكثير من الفلسطينيين والسوريين الذين هاجروا وتركوا عوالمهم فارغة.
الحوارية داخل السرد
بدأ تشويق الكاتب رياض طبرة من عنوان قصته “راضي 2” الذي أوحى بأن القصة تأتي ضمن سلسلة ليتضح بأنها أشبه بسيرة ذاتية لأحد الشخوص الذين يعدّون أنموذجاً لامتلاك القدرة على التغيير الحياتي والمكاني ،شد القارئ الحاضرين منذ بداية القصة التي مضت بتسلسل منطقي متدرج ومتماسك لتتشعب الأحداث ضمن الحبكة القصصية لمسألة الاغتراب والهجرة، فكان الوصف الدقيق للشخصية أشبه بالرسم على لوحة ليتعمق القاص بالوصف السيكولوجي للشخصية والتي تشابكت مع وصف القرية النائية وأنسنتها في إيماءة خفية إلى الفقر والجوع “كل من زار قريتنا النائية المرمية كثوب رث على قارعة الجبل ،تكاد تصرخ من جوعها” لينتقل إلى وصف الرجل الذي تبدأ مجريات الحكاية من خلاله “كان الرجل يضع طربوشاً أحمر على رأسه يرتدي بزة ذات لون أزرق”،ليمتد الوصف من خلال مظهره إلى قسوة بعض الأشخاص الموجودين والذين شبههم بالوحوش ،أو من وحوش أخرى أشد قسوة ووحشية مما جادت به الغابة أو طفح به الجبل أو السهل ،وقد استخدم مهارته السردية في التنقل بين عدة أجيال من سكان القرية في وقت واحد ،وفي إظهار مقاربة خفية بين الأمكنة بين لبنان وفلسطين “كما قال والد السارد :لم أنس الهادار والحسبة وبيت الأرانب فقد ترددت هذه الأسماء على مسامعنا ،وكل اسم له ما يشابهه فكنيسة حيفا هي ذاتها كنيسة مار الياس ووادي النسناس هو ذاته وادينا”في أزمنة متعددة تمتد من العهد العثماني إلى العهد المعاصر مستندا إلى الحدث الأساس وهو الاغتراب من أجل البقاء ،والسمة البارزة في القصة هي الحوارية بين السارد الشاب في الخامسة عشرة وبين والده حول شخصية راضي الذي بلغ الخمسين في حالة استرجاع واستباق للزمن ،لتلخص حكاية راضي الذي جاء مع أهله إلى القرية وهو في سن العاشرة بعد أن أنهكتهم الحرب ولم يجدوا مأوى ،واختار راضي المهجر الجنوبي ليتحول من المرابع راضي إلى الخواجا راضي “صار الشيخ وابن الشيخ يهللون لقدوم راضي .لينقلب الزمن بعد سنوات الكفاف ويضطر ابن الشيخ للهجرة إلى المجهول ولكي تستقر حاله يتزوج ابنة راضي “تزوج ابن الشيخ ابنة المرابع الفلاح الذي لم يملك قطعة أرض” وقد وصف القاص هذه النهاية بالفجائعية مع أننا نراها بوضوح في واقعنا وتنسحب على كثير من الأمور.
ملده شويكاني