ثقافة

جريرة!

غسان كامل ونّوس
ليس التملّق جديداً، ولا النفاق، والتمسّح بالأذيال. وليس غريباً أن ترى، وتسمع من يبالغ في المدح في الوجه، ويبالغ أكثر في القدح، في غياب المذكور، وحضور سيرته أو استحضارها لهذه الغاية وسواها! وليس ناشزاً أن تسمع رأياً، وتتعجّب من ترديد ما يخالفه إلى درجة فاقعة، من قبل الشخص عينه، وفي مدى قصير؛ بل ربّما في الجلسة نفسها!
لكن نسبة ذلك تختلف بين مجتمع وآخر، وظرف وسواه. ويبدو الأمر أكثر فجاجة، حين يكون المطلوب اتّخاذ موقف ما، في مجرى أحداث حادّة، ومفاصل قارسة، ليتجاوز الأمر القول المجانيّ المحابيّ الموشّى بالكثير من المفردات، والدعوات، والأمنيات، إلى تداعيات أخرى للرأي المعلن، وانعكاسات لا يستطيع المرء حيالها إلّا أن يبدو على حقيقته؛ إمّا منسجماً مع نفسه، وعواطفه وآرائه وأفكاره، في موقف مشهود؛ أو تناقضاً معها، إلى درجة الانبتات!
ولندعْ أمر المثقّفين والكتّاب في قدراتهم البلاغيّة والاستعاريّة، وتناقضاتهم الصارخة بين ما يكتبون في إحقاق الحقّ، والتحلّي بالمنطق والصدق، وما يدّعون من مواقف تهتزّ لها العروش، وتنتحب حيالها الهبات والتقدمات، وتتوارى خجلة من وهجها المناسبات والمجاملات، وبين ما يمارسونه على أرض الواقع، وفي وضوح الرؤية؛ وسأدع المتذبذبين في الأفعال وردودها، والأقوال والصفات، وأصحاب الإمكانيّات في ترجمة بعض ما يقولون إلى بضاعة وأثمان. وأّتجه صوب الهدف أو المستهدف، وأتساءل بدهشة: كيف يمكن للمرء أن يفرح لقولٍ فيه، لايناسبه، ولإسباغ صفات عليه، لا تنسجم مع قوامه، ولإقحامه في سجلّ الأبطال المقدامين، والفرسان الذين لا يُشقّ لهم غبار، وهو بعيد عن أيّ من ذلك؟! وهل يُرضي هذا غروره، أو يداعب رغباته وأطماعه، أو يلامس أمنياته؛ كيلا نقول طموحه؟!
وهل يُصدِّق حقّاً ما يُرجم به من مدائح، ويصوّب إليه من ادّعاءات؛ إن أصابته حوّلته كائناً مختلفاً، واستبدلت به شخصاً آخر؛ وإن لم تصبه، أغوته، وأسالت لعابه، وتركته في دوّامة من الوهم والحلم، ليس من السهل إيقاظه منها.
يصحّ هذا الكلام في كلّ ظرف وحال، وفي كلّ آن ومكان، ولا يُختلف على ذلك، سوى في قدرة الكائن على التبصّر والتفهّم والاستيعاب والمواجهة، وهذا ليس سهلاً، حتّى في المسارات العاديّة، والظروف الطبيعيّة.
أمّا في مثل الأحوال التي نعيش، وفي سياق ما يجري، من امتهان للقيم والأخلاق، واستهانة بالقوانين والأعراف، واستباحة للحدود والفواصل العينيّة؛ فما بالك بالنفسيّة والنظريّة؟! فإنّك لترى مثل هذا التناقض الصارخ، في حال قصوى، وتعجب حين ترى الآخر في نشوة، مرتاحاً، ومستعدّاً لسماع المزيد؛ بل يتطلّبه، ويستجيب للحقن الكلاميّ المجّانيّ أو المأجور، فيتنفّخ، ويتعامل مع الآخرين، الذين يقولون أو يسمعون، يوافقون أو يتبرّمون، على أساسه، ويريد من الجميع أن يعاملوه بناء عليه؛ فهو دليل إثبات؛ حتّى لو جاء ممّن لا تقبل شهادته، ولا يعتدّ بآرائه، وما من ثقة بحجّته!
وإذا كانت جريرة الإقدام على التعظيم في غير موضعه قولاً أو سلوكاً، تقع على الفاعلين-ولا يُستثنى من المشاركة بها الساكتون- ولا يحاسب عليها القانون بوصفها افتراء وشهادة زور، فإنّ جريرة قبولها لا تقلّ فداحة، وتستوجب هي الأخرى المحاسبة على الادّعاء والتحايل والتقمّص وانتحال الشخصيّة؛ أم أنّ افتقاد هذه المدائح، حين ينحدر المسؤول عن كرسيّه، واستبدالاً بها صفاتٍ أخرى مناقضة، على الرغم من أنّ فيها –ربّما- قدراً أكبر من المصداقيّة، يكفيان عقوبة معنويّة ووصمة عار لا تفارقه؟!
قد لا يفكّر في هذا من ينفش ريشه، حتّى يحسب أنّه يطير، ولا يدّعي على من أوصله إلى حيث لا يستحقّ، ولا يستطيع الإقامة طويلاً؛ إلّا إذا “دامت لغيره”! ولعلّه يتمنّى، في لحظة يقظة ووعي، قد تأتي متأخّرة، لو أنّه قال لمن بالغ في مدحه، قولة رجل عظيم واثق، لرجل بالغ في تعظيمه، ويشكّ في طويّته: أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك!.