ثقافة

عولمةُ الحزن

وسام محمد ونوس
أنتَ تحزن, أنا أكتبُ عن حزنك, الآخرُ يقرأ حزنَكَ مختلطاً بما أضفتُهُ من نكهةِ حزني, ثم يتحدّثُ عنهُ لصديقٍ مضيفاً إليهِ شخصيةَ ألمه, ثم ينتشرُ حزنكَ, وحزني, وحزنهُ, وأحزانُ الآخرين كنميمةٍ من الأحزانِ على ألسنةِ الناس. فجأةً تتعرّفُ إلى حزنَكَ في حديثٍ عابر بين امرأتين في مقهى, أو طفلينِ في زقاقٍ ضيّق, وربما تسمعُ بعضَاً من أنينِ حزني أيضاً. يغلبُكَ الحنين, تريد استرجاعَ حزنكَ, تمدّ يدَ أذنكَ متسوّلاً حزنك, تلملمُ بعضاً من هنا وبعضاً من هناك…! تفكّر, لا بدّ أن شيئاً من حزني قد اندثرَ, أو استهلكتهُ الألسنةُ, أو اختنقتْه الحناجرُ أثناء تناقلهِ. تحاولُ استخراجَ ما تيّسرَ لكَ منه, من أصواتِ من يثرثره… ! تجوبُ الشوارع في المدنِ الصاخبةِ بشتى أنواعِ الأحزانِ المحكيّة, بينَ شقوقِ الأرصفةِ بعضٌ مما بكيتَ يوماً, وقد سقطَ من فم أحدهم ذاتَ نميمة, على النوافذِ قطراتٌ منهُ سقطتْ مع المطرِ, بعدَ أن تلاها سبّاحٌ على مسامعِ سمكة, ثم تبخّرت إلى أن ضجّتْ بها آذانُ الغيوم….! تحوّل حزنُكَ إلى ذرّاتٍ متناثرةٍ آنى لكَ أن تجمعها كلّها, تقتربُ حيناً من تشكيل بعض جزيئاتها, وينقصُكَ دوماً قطعةٌ واحدةٌ من صورةِ اللحظة. ربّما تلتقطُ حيناً بعضاً من حزني أنا, لكنّكَ لا تميّزه لشدةِ تماهيهِ مع حزنك, فأسمعكَ تتلوهُ على مسامعِ لهفتك, أشعرُ بالغيظ, وأطالبُ بحزني المأسورِ خلفَ قضبانِ حزنك..! ربما أسترجعُ منكَ ما هو أكثرُ من حزني, ما هو ليس لي, فأعودُ لأكتبهَ شاعراً بحزنٍ جديدٍ على مَنْ سرقتُ منهُ ما أضاعَ من حزن..! تعودُ الدائرةُ لترسمَ شكلها القديم, ونغرقُ أنا وأنتَ باحثين عن زوايا حزننا في داخلها, نصطدمُ حيناً بالجدار المكوّر, وحيناً نتقمّصُ شكل زاوية. أنتَ تحزن, وأنا أكتبُ عن حزنكَ, كأنّي أراهُ أمامي, كأنّهُ شخصيّةٌ عامّةٌ مشهورة, كأنّهُ باتَ شخصاً مألوفاً أكثرَ منكَ, بل يكادُ يكونُ قد احتلّكَ تماماً, وتركَ لكَ شقاءَ المقاومة. أنتَ تحزنُ, وأنا أكتبُ عن حزني الهاربِ إليك, عن مزيجِ حُزنينا, عن تفاعلِ آلامي وآهاتك, عن تصادمِ آمالي ودموعك, عن ذاكَ المسخِ المولودِ من تزاوجِ كلماتي وإحساسك. أنتَ تحزنُ, كأنّكَ تمارسُ  رياضتكَ اليوميّة, أو تلهو مع أطفالكَ, وأنا أكتبُ عن حزنكَ كأنّني أشارككَ الرّكضَ على أرصفةِ التّنهيد, وأشتري لأولادكَ ألعابَهم المحبّبة. حقّاً لقد أجدْنا لغةَ الحزنِ وثقافته, وبتنا من المجتمعاتِ المصدّرةِ له, والمشهورةِ بإتقانِ تصنيعهِ, وتعليبهِ, وزراعتهِ, وتهجينه. حاصرتْنا الأزماتُ فعوْلمْنا الحزن, من حيثُ ندري أو لا ندري, أصبحنا رُسلاً للحزنِ أينما حللْنا, نبشّرُ بهِ, وننشرُ فضائلهُ, ونسألُ النّاس للهدايةِ بتعاليمهِ, وطقوسه. كنتَ تحزنْ, وكانَ حزنُكَ لا يعنيني, كان ربّما على مقاسِ يومكَ, وبمقدار حجمِ راحةِ كفّك. ثمّ تحوّلَ حزنكَ إلى ماردٍ خرجَ من قمقمِ الوقت, وظلّ يكبرُ حتى صارَ حزنَ وطن. صرتَ تحزنُ. فأكتبُ عن حزنِ وطنٍ يسكنُ شرايينَ آلامك, أكتبُ عن حزنِ أطفالٍ ينهلونَ من أنهارِ دموعك, أكتبُ عن حزنِ أمثالٍ لكَ ما استطاعتْ أحزانُهم أن تخترقَ جدارَ القلبِ لتصرخ. عرّفتْنا الأحزانُ يا صديقي على بعضنا, أنتَ في الشّرقِ, وأنا في الغربِ, والدّربُ الحزينُ امتدّ حتّى التقينا في الوسط, في الوطن. أنتَ تحزنُ على فقدٍ, وأنا أكتبُ عن شهيد, أنتَ تحزنُ على فقرٍ, وأنا أكتبُ عن مشرّد, أنتَ تحزنُ على دمارٍ, وأنا أكتبُ عن انفجار, فكيف لنا أن نُضيعَ أوجهَ الشّبه! لم تُرسم الأحزانُ يوماً على شكلِ خطوطٍ متوازية, كانت وستبقى متعرّجةً, متداخلة كطرقاتنا الجبليّةِ الضّيقة, ككثبانِ الرّمالِ في صحارينا الشّاسعة, كهوائنا العاصفِ, كدوائرِ الماء. ليسَ بالإمكانِ أن أفصلَ حزنكَ عن حزني حتّى لو أردتُ, أو أردتَ, ذلك. سيخونني الفرحُ إن فعلت, ستثورُ على قلمي الكلمات, سأتجرّدُ من إنسانيّتي لو فكّرتُ أن حزنَكَ أقلّ, أو أكثر. فالحزنُ يا أخي, لا يُقاسُ بسيلِ الدّموعِ, ولا بعددِ الشّهقاتِ, ولا بأكوامِ الشّرود. الحزنُ هو الحزنُ, تختلفُ أسبابهُ وتتشابهُ بخبثٍ نتائجه. الحزنُ هو أنتَ بكاملِ قواكَ الإنسانيّة, والحزنُ هو أنا بكلّ ما في قلبي من نقاء. أنتَ تحزن, وأنا أكتبُ عن حزنك, يوماً ما ستتحدّانا الأحزان رافضةً أن نستعيدَها من أفواهِ الآخرينَ وقلوبهم, فتتوارثها أجيالُ غيرنا, أحفادُ سوانا من البشر الذينَ ربما لا حزنَ لهم, أولا يعلمونَ في أي فمٍ سكنَ حزنهمُ, وإلى أي فمٍ آخرَ انتقلَ ذاتَ قبلة.!