ثقافة

في المعترك

غسان كامل ونوس
في معترك القول الذي يتحرّك كالريح في اتّجاهات شتّى، ولا سيّما في مثل هذه الفصول المجنونة، تحتاج إلى استشعارات وحسّاسات مميّزة؛ كي تهتدي إلى مجريات الواقع الفعلي، وتفاصيل حوادثه؛ ناهيك بالجوهر والغاية والحقيقة؛ هذا إذا كنت ما تزال حائراً فيما يجري، مشوّشاً، متسائلاً كيف تسير الأمور؛ أمّا إذا كانت لديك رؤية ومعرفة وخبرة، ولم يعد للشكوك أو الريبة مكان مهمّ، وبتّ على قناعة بأنّ الأكمة لم تعد تخفي ما وراءها، ولا بين السطور ما يمكن أن يخفى؛ فقد تحتاج إلى عوامل أمان مضاعفة؛ كي تردّ المؤثّرات والمنبّهات والمثبّطات التي لا تهدأ، لدى أيّ لقاء، حتّى لو كان عابراً. وفي أيّ محاولةٍ لمتابعة وسائل الإعلام، وحتّى لو كنت وحيداً؛ فمن غير المأمول أن تسلم من تجاذبات الأفكار والمشاعر، وتبقى على قناعة تامة ورضا مريح عن النفس، التي ستحتار هي الأخرى في أيّ اتّجاه ستسيّرك، وبأيّ منغّصات ستأمرك، وفي أيّ معترك قد تودي بك!
ومن نافل القول أو التفكير أنّ هناك تعدّداً في الخلفيّات، التي تكمن أو تظهر وراء الكلام المباح وغير المباح، إذا كان ما يزال هناك من أمر غير مباح. لكنّ الملفوظات سرعان ما تحمل نبرة قائلهِ أو خلفيّاته؛ فيكون تقبّلك لها مختلفاً؛ حتّى لو كان الكلام ذاته أو فحواه عينه؛ فقد يكون وقع انتقاد حادّ من متألّم، خائب، طيّب، صادق، مقبولاً، وتوافق عليه ربّما، وقد تنقله وتصرّح بذلك وتدافع عن قائله. لكنّك ترفض مثل هذا الانتقاد،ممن تعتقد أنّه لئيم حاقد متربّصٌ مدّعٍ، وتواجه ذلك أيضاً، وقد تدافع بعصبيّة عن وجهة نظر معاكسة، (قد لا تكون وجهة نظرك)، وتبحث عن مفردات ووقائع ومقولات ومسوّغات لتدحضه وتدينه، مع أنّك قد تفكّر في ذلك أيضاً! وقد تفكّر بينك وبين نفسك في هذين الموقفين؛ فهل أنت متناقض، غير واقعيّ، منافق، غير مقتنع، مزاجيّ؟! وكيف تعلّل ذلك؟!
تحاول التخفيف من حدّة الوقع المضطرب والصدى المصدِّع لهذا النوسان، أو التذبذب، بأنّ أمّاً قد تغضب من ابنها، فتقسو عليه شاتمة؛ بل داعية عليه، بما لا يسرّ ولا يرضي!
والأمّ هذه بذاتها، لا يمكن أن تقبل سماع أقلّ من مستوى هذا الكلام المجرّح، يطال وليدها، وهي لا شكّ ستثور، وتتحوّل إلى لبوة شرسة، إذا ما هجست أنّ أحداً آخر يأتي بما يمكن أن يُشتمّ منه روائح عكرة، حتّى لو كان قريباً!
فهل من يشكّك بعاطفة الأمّ تجاه فلذة كبدها، ودفء حضنها، ورقّة مشاعرها، ومدى حرصها عليه، وتماسكها في ما تضمر، أو تتمنّى له، من خير وعافية وسلامة وأمان؟!
فكلامها عنه،إذاً، دافعه الحرص عليه، والحبّ والغيرة عليه، والأسف على سلوكه، والخيبة منه ربّما، والرغبة في أن يعود إلى جادّة الصلاح؛ أمّا الكلام الآخر عنه، المشابه أو المماثل؛ فقد يكون من ورائه- أو تحسب ذلك أو تتوهّم-عدوانيّة أو خصومة، أو مصلحة شخصيّة، وخلاف، ومنافسة شريفة أو غير شريفة، وحقد،والرغبة في التسفيه والأذيّة والتشويه، وسوى ذلك…
هل يكفي هذا التمثيل، ليكف المرء عن تشتّته، ويرمّم تصدّعه، ويبلسم تهشّماته، أمام نفسه، قبل أن يحتاج إلى هذا أمام الآخرين؟! وهل يمكن أن يستمرّ في فصامه هذا: يثور من الآخرين، ويواقعهم إلى حدّ الشراسة، إذا ما أشاروا إلى ما يؤلمه ويدميه من مرويّات ومشهديّات وحيثيّات؟!
وكيف يمكن أن يستمرّ في هذا الصراع الداخلي المرير؟! وإلى أيّ حدّ يمكنه أن يصمد أمام أناس قد يكونون جزءاً من كيانه الأسرويّ أو المجتمعيّ أو المؤسّساتيّ، وقد لا تكون لهم مرجعيّات فتنويّة خارجيّة أو داخليّة، ولا جهات عدوانيّة، أو خلفيّات مثيرة للشكوك، ونوايا قاتمة، وهم مثله- ربّما- يعيشون التصدّع عينه، ويعانون المرار ممّا يحدث أو يُثار، ويقلقون ممّا هو قادم!
وكيف سيؤثّر هذا على مقاومته لكلّ هذا الاستضعاف، وقدرته على المواجهة، وسعيه الصادق للإصلاح، وفعاليّته في إعادة البناء المرجوّة والمنتظرة؟!
أسئلة تحتاج إلى مواجهة هي الأخرى، من دون الاستسلام لها، واليأس من هيمنتها، وانتظار ما قد يأتي به الغيب من فرص أو حلول، أو ما قد تسفر عنه الأوقات القادمة، التي قد لا تقلّ خطورة وقساوة، ومدعاة للانضغاط والتشظّي!
ولا بدّ أن نكون مبادرين لذلك، لا مسوّفين معلّلين مواسين، وأن نحاول أن نكون مقتنعين ومقنِعين، لا مستفزّين أو مستفَزّين، وأن نَظهر مقدامين في استنهاض القوى والطاقات، واستحضار الأفكار والمعاني والقيم، التي ترعى، وتحمي، وتُنصف، وتحفّز، وتنجز، وتثمر!