رائحة البحر تفوح من سطور مينه “حبّ اللاذقية كان حبي الأبلغ كتبته على جبيني وصدري وعنقي وأصابعي وكتبته أيضاً على أحجار القلعة وخضرة المنشية”
حنّا مينه من أشهر الروائيين العرب كان عنواناً لكتاب جديد “حنّا مينه حكاية بحار” صادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب ضمن سلسلة (مبدعون) الكتاب الشهري لليافعين للكاتب د.شوقي المعري،وتهدف هذه السلسلة إلى التعرّيف بالأعلام وتراجم الأدباء والكتّاب، وتقديم موضوعات منوّعة بأسلوب يناسب تفكيرهم وثقافتهم ولغتهم.
قسم د.المعري الكتاب إلى قسمين: الأول اتخذ طابع السيرة الذاتية بالسرد المباشر عن مراحل حياته متوقفاً عند منعطفات التهجير والفقر والتشرد والضياع مركزاً على القسوة الحياتية التي جعلته يحفظ في ذاكرته بالكثير من الصور، بينما كان القسم الثاني أقرب إلى التحليل الفني لعمله الروائي مستنداً إلى الرواية الأكثر شهرة “المصابيح الزرق” متوقفاً عند المفردات التي شكّلت عنده خصوصية التعبير عن عوالم البحر ومياهه المالحة،راسماً الكثير من الشخوص الذين التقى معهم في أعماله المتنوعة وغاص في أغوارهم النفسية،كما أفرد الكاتب مساحة لأهمية الرواية عند مينه لاسيما أنه وجد بعصر النهضة والترجمة.أهم ما في الكتاب إيضاح فكرة تبني مينه لغة الرواية الواقعية القريبة من الناس والبعيدة عن الألفاظ البلاغية والإنشائية.
سنوات الشقاء
بدأ الكاتب السرد المباشر لحياة مينه منذ ولادته في مدينة اللاذقية عام 1924 في لواء اسكندرون ليغادر بعد سنوات قليلة إثر سلب تركيا اللواء، فمضى مع رحلة العذاب في الانتقال إلى أماكن متعددة وبأوضاع مادية صعبة دون وجود أبسط وسائل الحياة،والدته مريانا ميخائيل زكور،وحنا الأخ الصغير لثلاث بنات، عاش في بيئة فقيرة وعانى في طفولته من المرض، وترعرع في محيط اجتماعي متخلف في زمن صعب إثر الخروج من الاحتلال العثماني وسطوة المستعمر الفرنسي، إضافة إلى الإقطاعيين الذين كانوا أشد وطأة وظلماً على الناس،اشتغل مينه في عدة مهن ذاق منها مرارة الشقاء،المنعطف الهام كان زواجه وسفره إلى الصين وبداية الاستقرار والتمهيد لمرحلة الكتابة.
شرارة الرواية
لم يحصل مينه إلا على الشهادة الابتدائية ورغم ذلك جعلته الحياة من أشهر الروائيين، بدأ منذ صغره بكتابة الرسائل للجيران والأصدقاء ومن ثم كتب العرائض والطلبات وكان الناطق باسم سكان الحي الذي يسكنه يجيد فن التعبير عن مشكلات المحتاجين والبسطاء،وبعد ذلك بدأ بكتابة الأخبار والمقالات الصغيرة التي تعبّر عن الظلم من المجتمع والمستعمر. المحطة الهامة أنه انطلق للعمل الروائي من خلال المسرحية التي بُنيت على أحداث افتراضية وواقعية لكنها ضاعت ولم يستطع أن يكتبها من جديد.
دخل مينه عالم الرواية من باب القصة المطوّلة والبداية القوية لأدب الرواية كانت مع المصابيح الزرق، والتي يبدو من خلالها أن الأحداث والشخصيات تكون جزءاً من حياة الكاتب،وقد استمد شخوصه من العوالم الاجتماعية التي عاشها ورصد خفاياها منذ صغره.
مفردات الرواية وشخوصها
رأى مينه أن الألفاظ البلاغية والإنشائية لاتخدم الرواية فكتب الرواية باللغة الخاصة بها فالبحر له ألفاظه وكذلك الجبل واستطاع أن يوظّف اللغة القريبة من العامية ضمن إطار شخوص رواياته الواقعية،ويعترف مينه بأن البحر كان الملهم الأول له ويتعجب من غياب البحر عن أعمال الكتّاب العرب،فالبحر يكتب عن نفسه عن الناس البسطاء عن المراكب الصغيرة عن الحنين،وخلص الكاتب إلى رأي مينه في الرواية بأنها كانت جنساً أدبياً ثورياً بامتياز وضعت الشعب على مسرح الحركة الأدبية العربية.
وأنهى الكتاب بأنموذج من كتابته من كتاب “رسالة إلى امرأة”: “حبي للبحر لايحتاج إلى شهادة كتبي هي شهادتي،غير أن البحر محبوب لايبقى في المطلق، إنه في ذاتي ظرف مكان وزمان.رغم صغر حجم الكتاب إلا أنه ممتع إذ استطاع د.المعري أن يقدم لمحة شاملة ومختصرة عن أدب البحر الذي ارتبط بأدب حنا مينه ليس فقط لليافعين، وإنما للجميع، لكنه لم يتوقف عند الرواية الشهيرة التي ارتبطت بتاريخنا الشراع والعاصفة.
ملده شويكاني