ربة القهوة
تمام علي بركات
كعجوز عتيق يبست أوردته وجفت عروق روحه، أو كبحار مهزوم من عاصفة مؤجلة،أريد أن أجلس على حجر تحت صفصافة في قريتي، افرد كيس تبغي، أخذ ورقة لف من دفتر الورق الصغير، ثم امرر الورقة بين أصابعي بهدوء ودراية، كأني أداعب خد امرأة حلمت بها طويلا، أتناول بأصابعي قليلا من التبغ،واضعه في الورقة برقة، كمن يضع طفلا في مهده، ألفها وابلل أطرافها بريقي، أشعلها وأنا استعيد ببطء شريط ذكريات وكأنها أحلام سرية لا يحق لي البوح بها، -الذكريات الجميلة لا تُحكى ولا تُقال كي لا تفقد بريق لمعتها.
لا أدري إن كنت واثقا بقدرتي على فرزها وإزاحة الذكريات المؤلمة منها، كم أتمنى لو كانت تلك الذكريات كالجرائم تسقط بالتقادم، لكن الذكريات المؤلمة، هي الأكثر رسوخا وتأثيرا ولو بعد حين.
تهب نسمة خفيفة محملة برائحة البيلون والهندباء، وتتمايل أجراس شجرة الكينا القريبة، نسمة تؤرجحني بحبال خيالاتها، ترفعني عاليا، لأسقط في البرامكة، الساعة السابعة والنصف صباحا، منتظرا هبوبك الصباحي، يقف الباص تهبطين منه برشاقة، ثم تتجهين صوبي وأنت تحاولين أن لا تنظري إلي مباشرة، متعللة بانتباهك للسيارات المسرعة،إلا أني اعرف لماذا تفعلين هذا بي -لا اصدق أنك هنا حتى ألمسك بيدي- امسك بيدك الوديعة، اقبلها وسط ذهول المارة وبائعي البسطات، وعندما نصل إلى زاوية كلية الفنون، حيث الأشجار كانت تغطي السور، يصبح السياج مسندا محسودا لظهرك والياسمين من الشهود على أن نكهة الصباح النافرة منك، لا شبيه لها، طعمها وكأنه: صباح وقهوة ساحلية مع حبة هال من رائحة نومك المنعشة، قهوة فيها لمسة من يد بحر.
آخذ مجة أخرى من السيجارة، عصفوران يثرثران على سلك الهاتف، أعود لأيام –باب توما- وأنت توقظيني باكرا قبل أن تذهبي، قبلات لطيفة تتقافز فوق وجهي وأصابعي وجبيني كأشعة شمس تتراقص على وجه الماء.
رائحة القهوة التي تخترعينها، تشق القلب، صدقا يا هذه: ما سر قهوتك الذائعة الصيت؟ لماذا كنت أدوخ منها، تندسين تحت اللحاف وأنت تقولين “يلعن أبو الشغل”.
آخذ مجة عميقة من السيجارة وصدري يكاد يختنق بأضلاعه، أينك الآن؟ وماذا تفعلين؟ ولمن تصنعين القهوة هذه المرة، لا لشيء، فقط لأعرف إن كان سيسميك “ربة القهوة” كما أسميتك، أم انه سيكتفي برشفات سريعة ويغادر؟
مازالت نكهة قهوتك طازجة تحت لساني. لم يستطع أي أحد أن يقلدها حتى.
ربة القهوة.. هكذا سميتك وسميت عليك.
أرمي عقب السيجارة المشتعل، ثم أجهد لأنهض عن الحجر، لكن ثقل ذكرياتك، يمسكني من أكتافي، ويعيدني جالسا، افرد كيس التبغ وتهب نسمة تحمل رائحتك وهكذا حتى يوفي هذا الرب بنذوره للجميع، حتى القتلة.