ثقافة

أديـب مـخـزوم: الـنـقـد مـوهـبـة أولاً

وصفه الفنان العالمي الراحل عمر حمدي بأنه الاسم الذي أدهشته ملامحه النقدية من خصوصية وعوالم معقدة، ولطالما أُعجِب به لأنه برأيه واحد من أهم من يكتبون في النقد.. إنه الناقد التشكيلي أديب مخزوم الذي يعترف في حوار “البعث” معه على هامش المحاضرة التي ألقاها في مركز ثقافي أبو رمانة مؤخراً بأنه بدأ كفنان يمارس الرسم، إلا أن النقد سرقه على مدى 30 سنة، وقد انحاز له بكل جوارحه لأن من يكتبون النقد برأيه قلائل جداً، في حين أن الساحة الفنية مليئة بالفنانين المهمين، لذلك لا يخفي أن تجربته في الفن ليست أهم من تجربته في النقد.

لا ينكر مخزوم أن ممارسته للفن خدمت كتاباته النقدية وجعلته كناقد مدركاً لصعوبة العملية الإبداعية وعارفاً بالأساليب المتبعة والتقنيات والمواد التي يستخدمها الفنان عادة، وهذا ما يفسر أن معظم النقاد الذين يمارسون النقد التشكيلي هم بالأصل فنانون، في حين أن القراءات والمتابعات الدائمة له كناقد جعلته يتعرف على آلاف اللوحات العالمية، وهذا انعكس إيجابياً على لوحته التي يرسمها لأن اطلاعه على تجارب الآخرين شكَّل لديه مخزوناً وتراكماً بصريين كبيرين.
ولأن النقد العلمي يكتسبه الناقد من القراءة والمتابعة لا تصح دائما برأي مخزوم معادلة أن كل فنان هو ناقد بالضرورة، والدليل أن كثيرين من الفنانين لم ينجحوا كنقاد، كذلك لا تصح معادلة أن كل ناقد هو فنان، والدليل أن ناقداً مثل الراحل طارق الشريف -الذي تسلم رئاسة تحرير مجلة الحياة التشكيلية لمدة طويلة- لم يدرس الفن، وكان مصوراً ضوئياً ودارساً للفلسفة.. من هنا يرى مخزوم أن النقد موهبة أولاً، والدليل أن البعض درس النقد بشكل أكاديمي ولم يمارسه على الإطلاق، وأن أشهر ناقد في القرن العشرين أندريه مارلو لم يدرس الفن.

اعتقاد خاطئ
ويحزن مخزوم -الذي مارس النقد على مدار 30 سنة وهو الذي لم يترك ثغرة في الحركة التشكيلية السورية إلا وقد طرحها من خلال زاويته الأسبوعية في صحيفة “الثورة”- لأنه وفي ظل الظروف الحالية ونتيجة غياب كثير من الفنانين البارزين وسفرهم خارج البلاد فُتِحَت أبواب المعارض والصالات للكثير من التجارب التي لا تستحق والتي استفادت من هذه الظروف لاختراق  الساحة التشكيلية، وهذا برأيه أثَّر على واقع الحركة التشكيلية السورية بشكل سلبي، الأمر الذي يستدعي اليوم من النقد والنقاد حضوراً خاصاً لتصحيح هذا الواقع، مشيراً إلى أنه ثمة اعتقاد خاطئ متوارَث منذ قرون مفاده أن النقد في شتى مجالات الإبداع يجب أن يشير إلى مواقع القوة والضعف في العمل الفني، وهذا برأيه غير صحيح لأن النقد أبعد من ذلك بكثير بحيث يتفرع إلى نقد تعريفي وتصويبي وتحليلي ومقارَن، فدون النقد التعريفي مثلاً كيف يمكن أن نتعرف على  لوحات كبار الفنانين؟

فوضى وأخطاء
وفي اتجاه آخر وفي الموضع نفسه قدم مخزوم في المحاضرة التي ألقاها نماذج من الأخطاء التي تحفل بها بعض الكتب الفنية التشكيلية والصحف المحلية، ومن ضمنها لوحات ومنحوتات منسوبة لغير أصحابها، منوهاً إلى أن غياب المتابعة والمساءلة والمحاسبة أدت إلى تفاقم هذه الفوضى والأخطاء لأن هذه الأخطاء مهيأة للانتقال إلى الكتب والمقالات والبرامج والأطروحات القادمة، كونها أصبحت مراجع في أيدي الباحثين والدارسين، كما قدم وثائق عن بعض النصوص النقدية المسروقة والمنسوبة لغير أصحابها والناتجة عن استسهال العمل الإبداعي والفكري والتعامل مع مقالات الآخرين وكأنها نصوصهم وثمرة بحثهم وجهدهم، مشيراً كذلك إلى العديد من الإشكاليات التي تتكرر وبشكل يومي في صحافتنا الورقية والإلكترونية وفي بعض الكتب، ومن ضمنها موضوعا الواقعية والتجريد واعتبار الفن التجريدي المرحلة الأخيرة التي يجب أن يصل إليها الفنان، مع العلم أن الفن في كل مراحله وعلى مر كل العصور القديمة والحديثة كان يتحول من أقصى حدود الواقعية إلى أقصى حالات التجريد، ثم يعود إلى الواقعية، مشيراً مخزوم كذلك إلى إشكالية أساسية أخرى تظهر بشكل دائم في كتابات الصحفيين والمترجمين العرب تُظهِر الالتباس الكبير والخلط العشوائي وعدم التمييز بين كلود مونيه زعيم ومؤسس المدرسة الانطباعية وادوار مانيه أحد زعماء الاتجاه الانطباعي، حتى أن بعض الكتابات يتعامل معهما وكأنها شخصية فنية واحدة، بالإضافة إلى إشكالية الكتابات الصحفية التي تتناول العلاقة الجدلية المتبادلة والمتداخلة بين الوعي والانفعال في اللوحة الفنية الحديثة والمعاصرة لأن قراءة هذا الأثر النفسي غالباً ما تؤدي إلى منزلقات تأويلية خاطئة تتكرر في معظم الكتابات والأقوال التي تتناول هذه الناحية، وبالتالي فإن تلك الكتابات تقع في هاوية الحوار المقطوع عن العمل الفني الذين يتحدثون عنه حين يطلقون عبارات مزاجية غير مسؤولة لا تمت إلى العمل الفني بصلة.
وكان مخزوم قد ختم محاضرته بالحديث عن النقد والتنظير وعدم قدرة البعض على التمييز والتفريق في كتاباتهم وأحاديثهم بينهما، الأمر الذي  يؤدي في النهاية إلى التقليل من أهمية النقد الجدي والموضوعي والبنّاء ويضعه في قائمة الكتابات الافتعالية والتزويرية والاستعراضية البعيدة كل البعد عن معطيات التجربة الفردية ومفردات اللغة النقدية الحقيقية القادرة على استشراف آفاق وتحولات وانعطافات وخصوصيات التجربة الفنية وتشريح معطياتها الجمالية والتعبيرية.

أمينة عباس