أسماء فيومي.. إيقاعٌ شفّافٌ للذكرى
(يرقص الرماد المتحرّك عند الإغفاءة الأولى لحظة الغياب، أو لحظة التسرّب الخجول للوعي ليعكس قلق اللحظة حين تلاشي الخط اللامبالي، و ليؤكّد قدرته على استحضار ملامح هنا وتأكيد شكلٍ هاربٍ هناك)
في بهو المحبة، وعلى أوانٍ قماشيةٍ وأخرى خشبيةٍ ومنها على ورقٍ مخرمشٍ ومصقولٍ يحفظها إطارٌ من بلّور، كانت المائدة غنيةً وكانت طقساً سنوياً.. كانت غذاءً للروح والعين يجتمع فيها حصاد الموسم من أعمالٍ لفنانين من مختلف الأجيال من كلّ حدبٍ وصوب، مبدعون نابت عنهم لوحاتهم التي نثروها ألواناً من فرحٍ وحبٍّ أكدوه رابطاً أقوى عند الإنسان، فكانت أعمالهم رسائل محبّةٍ وسلام.
في بهو مهرجان المحبّة تتجوّل ذاكرتي الآن، وإن سألتني لماذا إلى الماضي؟ أقول لسببين: المستقبل فكرة.. والحاضر موجودٌ يتحدّث عن نفسه، أما الماضي فهو رحيقٌ خالصٌ من الشوائب، وهو الدافع والذكرى ومنه العبرة.
تغادرني عيوني لتأخذني في سفرٍ ذي اتجاهين؛ داخلي كالحلم عوالمه أكثر اتساعاً يتوقف معه الزمن لتضيع في التفاصيل، وخارجي يجرّ ساقيّ إلى جوار الحوامل الممتدة في الطول، والمحيطة بالمساحة الواسعة لصالةٍ تستوعب ذلك الكمّ الهائل من الإبداع المتدرّج في نسقيّةٍ مدروسةٍ.
عند أوائل آب وفي أحد أعوام المحبة كان تعب المسير يتسرّب صعوداً قبل أن يجد استراحته في لوحةٍ تجدّد نفسها، وبعد كلّ جولةٍ يتكشّف شكلٌ جديدٌ ووجهٌ يختفي خلف تراكمات الزمن الشفّاف، وخلف عيونٍ احتلّت مكانها في جسدٍ آخر خلف قطرات ندى توزّعت وغسلت تفاصيل هنا وهناك، عيونٌ مكحّلة بالحزن ورموشٌ تنبت أجنحةً تتوق للحرية، انكساراتٌ وإيقاعٌ شفّافٌ للذكرى، شوقٌ وحنينٌ وطفولة نهدٍ، لونٌ يسبح في الأثير تخترقه نسائم ضوئية، وقعٌ ما، حدثٌ ما، أشكالٌ تعانق العراء، لا أكثر شفافيةً من ألوانٍ تستقبل المطر، ولا أكثر عفويةً وتلقائيةً من خطوطٍ
ترقص وتغنّي على شطّ القمر. هي الفنانة أسماء فيومي العابثة في فضاء خيالاتنا عبر لوحةٍ تعبث بالأقدار، تستوقفك لوحتها، تأسرك بسحرها، تستحوذ عليك، تغوص في تفاصيلها ثم تعود مجدداً بحراً يموج بالغموض، لا يمكنك أن تحيط بتفاصيله مهما أطلت التأمّل به. التشكيل عندها مساحةٌ للتعبير الحرّ، لا يحدّها منطقٌ، لها منطقها الذي تبرّره (عينٌ أكبر من أخرى، وعينٌ تشارك أكثر من وجهٍ، تتجاوز الأكفّ والأصابع عددها وشكلها) وهي تنبش عبر حالاتٍ تعبيريّةٍ وإنسانيةٍ أغوار الألم المنقوش على صفحات الباحثين عن الدفء والمشرّدين في العراء وعواصف الشتاء، عبر حسٍّ شفّافٍ لألوانٍ وخطوطٍ تتحرّك وفق إيقاعٍ متقطّع، لتنقلك عبر تناغماتها إلى قلب الحدث كما نقلتك سابقاً عبر التضادات الزهري والسماوي وارتباطهما بذاكرتك الطفولية.
تتوّج أسماء فيومي لمساتها وخطوطها الأولى شرف إنهاء العمل بما تتّصف به من تلقائيةٍ ومباشرة، وتدعوك للمتابعة، أياً كنت ستكتشف وجوهاً مختفيةً وعيوناً تحكي وتبكي وأصابع تعانق حريتها والدفء
وأخيراً.. أدعوك لدخول لوحة أسماء من الباب الأقرب إليك سواءً كان (التجريد أو الواقعية التعبيرية أو حتى السريالية) لكن كن متأهّباً لتجدد رؤاك وخصوصاً حين دخولك، وفي ذات اللحظة بأكثر من باب.
حسين صقور