فهرنهايت 451.. الخيال خالٍ من التّشويق
“لم يفعل “مونتاغ” أي شيء؛ يده فعلت كل شيء، يده التي تمتلك دماغاً خاصاً بها وضميراً وفضولاً في كل إصبع مرتجفة. تحولت هذه اليد الآن إلى سارقة. أقحمت الكتاب الآن تحت ذراعه، ضغط عليه بقوة تحت إبطه المتعرق وجرى خارجاً فارغ اليدين ومتباهياً كساحر! انظروا هنا! أنا بريء! انظروا”!.
فعل ذلك رغم أن عقله لم يكن ليستوعب بعد؛ كيف لأحدهم أن يختار الذهاب إلى محرقته بقدميه على أن يتخلى عن كتاب! أين وعيه؛ أين إدراكه؟ هكذا كان يفكر، بينما النيران تلتهم كل ما يقع في طريقها.
“غاي مونتاغ” رجل إطفاء ومواطن في بلد، افتراضي مستقبلي، بلد حلم بتشكيل العالم على هواه بحيث يكون في قبضته وتحت سيطرته، وكيف يتم ذلك إن لم تُغسل الأدمغة والعقول، لذا كان لابد من تقليم أفكار المواطنين وتشذيبها، بحيث بات إعمال العقل والتفكير ألّد أعداء البشرية وباتت القراءة وامتلاك الكتب جريمة لا تغتفر يعاقب عليها القانون بالحرق و”درجة احتراق الكتب لا تقل عن “451 فهرنهايت” وهي وظيفة غاي وزملاءه”.
لكن الصدفة الغريبة جعلته يلتقي “كلاريس” الفتاة ابنة السبعة عشر عاماً؛ المتمردة التي وخلافاً لما هو مرسوم للجميع، تبحث عن المعرفة بطريقتها الخاصة؛ تهوى الخروج والتجول في الأحراج؛ تراقب الطيور، تجمع الفراشات، تجلس ترفع رأسها إلى السماء تترك لحبات المطر أن تنزلق في جوفها “فتسكرها كنبيذ متقن الصنع” وفي بلد يسيَّر فيه مواطنوه عبر سماعات الأذن، ويتلقون علومهم من خلال شاشات عرض حائطية موحدة؛ لا بد أن تُعدّ كلاريس مريضة وتحتاج لمتابعة طبية تدرس حالتها الشاذة؛ لكنها رغم ذلك لا تتوقف عن إمطار غاي بأسئلتها المربكة: “ما السعادة؟ هل أنت رجل سعيد؟ ما جدوى إحراق الكتب؟ ما الذي يوجد فيها ويستوجب الحرق؟ والأكثر إرباكاً أن تسأله كيف حدث وقبل بوظيفته في حرق الكتب وأصحابها”؟. وأسئلتها وتمردها يدفعان مونتاغ لخوض تجربته الخاصة في التمرد أيضاً وعلى طريقته فيبدأ في امتلاك الكتب كلما سنحت له الفرصة، يقرأ فيها ثم يخفيها في فتحة التهوية في منزله البارد، يشبع نهماً غريزياً لعقله، ويستنبط أجوبةً لتساؤلات تشغله؛ أهمها “لماذا يتشبث هؤلاء الناس بأوراق الكتب المهترئة الصفراء؟ لماذا يفضلون الذهاب معها إلى المحرقة”؟.
يبدأ النور يتسلل إلى عقله وقلبه، يتفتح وعيه والإدراك لينحاز تلقائياً إلى القراءة ومحبيها والدفاع عنهم بأسلوبه “يساعده في الفهم أستاذ اللغة الإنكليزية المطرود من عمله “فابر” الذي يبدأ توجيهه ومتابعته عبر كبسولة الأذن، لكن وفي غمرة نشوة الفرح بالقراءة يغيب عن ذهنه أن في منزله زوجته “ميلدريد” التي غُسل دماغها كسواها من أبناء البلدة فتلجأ إلى الإبلاغ عنه حماية لنفسها، ليجد نفسه أمام أصعب مهماته” حرق منزله بنفسه، وهو ما إن ينتهي منها حتى يستدير إلى رئيسه في العمل يحرقه حياً ويبدأ رحلة الفرار عبر النهر إلى المنفى “مبنى السكك الحديدية” حيث عشاق الكتب والتائهون الهاربون من المحارق بقيادة “جرينجر” وحيث كلٍ منهم يحفظ كتاباً ممنوعاً عن ظهر قلب، ليصبح هو الكتاب أو صاحب الكتاب، فهذا شكسبير وهذا الكتاب المقدس وذاك آينشتاين، غاندي، شوبنهاور، وكونفوشيوس وسواهم، يقول له جرينجر: “نحن أيضاً حارقو كتب، قرأنا الكتب وحرقناها خوفاً من أن يُعثر عليها،… الأفضل الاحتفاظ بالكتب في الرؤوس الهرمة؛ حيث لا يمكن لأحد أن يراها أو يشتبه بوجودها، جميعنا قطع وأجزاء من التاريخ والأدب والقانون الدولي…”. متمثلين في ذلك طائر الفينيق الذي يحترق ويعود ليولد من قلب اللهب من جديد.
…..الرواية التي صنفت كواحدة من أفضل عشرة كتب في العالم والتي كتبها “راي برادلي” “هل كان يتحدث عما سنعيشه هذه الأيام، هل كنا نحن هذا المستقبل” كانت رداً على ما قام به السيناتور والسياسي “جوزيف مكارثي” من إرهاب فكري بحق المثقفين والكتاب في أمريكا” هل بتنا قاب قوسين أو أدنى من ذلك، أو أننا في المحرقة ذاتها؟ ترى كم من المكارثيين الجدد الذين ينبتون كالفطر وإن بغير هيئة حولنا الآن” روايته جاءت في قالب هادئ جداً بل كانت أقرب إلى المملة حتى الثلث الأخير منها؛ حيث لم تبدأ الفكرة تنحو إلى شيء من التشويق إلا عندما بدأت رحلة هروب مونتاغ من قاذفات اللهب والكلاب الآلية؛ عبر النهر باتجاه السكك الحديدية حيث يقيم الهاربون أمثاله من مرتكبي إثم القراءة والبحث عن المعرفة، بينما افتقر الجزء الأول إلى الكثير من التفاصيل والوضوح، فغابت كلاريس فجأة دون مقدمات أو أي تفسير، وربما أيضاً ظُلمت فكرة الرواية النبيلة التي افتقرت لمعالجة أكثر تشويقاً، لسوءٍ في الترجمة التي اقتربت في أحيان كثيرة من الترجمة الالكترونية؛ لا روح فيها فاقدة للمسة الأديب، تتباين جودتها فتأتي متقنة نوعاً ما في وصف النيران:
“لم تكن النار تحرق، كانت تدفئ”.
رأى مونتاغ أيدٍ كثيرة ممدودة التماساً لدفئها، أيدٍ بدون أذرعٍ مختبئة في الظلام، فوق الأيدي وجوهاً مسمرة لا تتحرك؛ ولا ترتج إلا بوهج النار، لم يكن يعلم أن النار يمكن أن تتخذ هذا الشكل، لم يكن يفكر قط أن في وسع النار أن تعطي مثلما تأخذ”.
وتتدنى حينما يتم اللجوء إلى الحوار الذي يبدو أقرب إلى مشهد أُعِدّ على عجل في سيناريو رديء الصنعة؛ ما جعلها تأتي أقل مما يتطلع إليه قارئ رواية نالت جائزة البوليتزر 2007 ، بينما يُصرّ مصنّفو الكتب على إدراجها ضمن الكتب العشرة أو الخمسة والعشرين الأهم عالمياً، حتى أن الفيلم الذي صنعه “فرانسوا تروفو” في العام 1966 والمقتبس عنها لم يقدم إضافة إليها أو تعديل روحها، فأتى مسطحاً خالياً من روح أفلام الخيال، أو أنه ربما تحتاج الرواية إلى ترجمة جديدة باللغة العربية تنصفها ولا تفقدها التشويق الذي هو أساس روايات الخيال.
بشرى الحكيم