د. محمود السيد يوثق ويحلل السيرة الذاتية للدكتور حكمة هاشم
لم يتصف الدكتور محمود السيد بالكتابة عن المبدعين الأوائل وحفظ أشعار العرب والدعوة إلى الحفاظ على اللغة العربية، والتمسك بالأصالة والهوية العربية فقط، إنما أيضاً بالقدرة الكبيرة على التحليل والتوثيق والمقارنة واستنتاج المعلومات التي تشكّل محاور أساسية، ومنعطفات هامة في الحياة الفكرية والاجتماعية والثقافية، بدا هذا واضحاً في كتبه عن السير الذاتية للمبدعين الأوائل ضمن سلسلة المجمعيين الراحلين.
فبعد كتاب د. أمجد الطرابلسي وكتاب د.عبد الوهاب حومد، صدر كتابه الجديد عن الدكتور حكمة هاشم بعنوان “الدكتور حكمة هاشم مفكراً جامعياً ومجمعياً 1913-1982″.
والأمر الملفت أن شخصية المؤلف تبدو واضحة من خلال سطور الشرح والتعقيب والمقارنة مركزاً على أسلوب النقد الذي اشتُهر به د. هاشم الذي استلم عدة مناصب منها، رئاسة الجامعة، وعمل بالتأليف وكتابة الأبحاث والمقالات والترجمة، إضافة إلى إسهاماته في العمل باليونسكو بمشروع محو الأمية، والمساعدة الفنية لدى المدرسة العليا للأساتذة في طرابلس.
ما يميّز الكتاب أيضاً الثقافة العربية والأوروبية بالتوقف عند الفلاسفة والعلماء، والأشياء المشتركة بين د.هاشم والمؤلف منها: الكتابة عن أنواع القراءة التي أفرد لها د. السيد مساحة كبيرة في كتابه الجامعي”أصول تدريس قواعد اللغة العربية”.
مفهوم البيت العربي
بدأ الباحث كتابه بما يشبه السيرة الذاتية للدكتور حكمة هاشم من حيث نشأته وتربيته ودراسته وعمله والمناصب الإدارية التي شغلها، ثم تابع في الفصول القادمة المحاور الأساسية التي شكّلت منعطفات هامة في الحياة الجامعية والثقافية، فتوقف عند مفهوم”واقع البيت العربي” الذي ورد في كتاب “المجتمع العربي” الذي صدر عن هيئة الدراسات العربية في الجامعة الأمريكية في بيروت مع عدة كتّاب، وفي الفصل الثاني “حكمة هاشم باحثاً اجتماعياً ومربياً”، نقل رؤية د. هاشم بأن البيت السوري- اللبناني يصلح ليكون صورة وسطية، متسائلاً عن الشرائط المادية التي تحيط بالبيت العربي، وهذا يتطلب دراسة مستوى الحياة البدوية والريفية والمدنية. ويرى أن ثمة ضروباً من صيغ السكنى والتغذية واللباس تتفاوت بتفاوت طبقات الشعب، ومنها تطرق إلى الوجه الاجتماعي مبتدئاً بالزواج مستعرضاً شروط الزواج عند المسيحيين والمسلمين، وبيّن الباحث موضوع التكافؤ في الزواج إلى شروط التكافؤ في القانون السوري وبيان الثغرات الموجودة في هذا المجال، ومنه توصل إلى مشكلة تعدد الزوجات، وفي النهاية ناقش أسباب انهيار البيت بالطلاق. في الوجه المعنوي درس هاشم كما أوضح د. السيد طبيعة العلائق بين الأفراد مركزاً على أن العلاقة مستندة إلى سيد البيت، فيحلل هذه العلاقة من خلال النساء والأولاد، ويخلص هاشم إلى أن الدرجة الثقافية والفكرية والالتزام الأخلاقي والديني والفرص التي يمارس فيها الإنسان هذه السلوكيات تساهم في بناء البيت المعنوي.
نماذج من التربية
أما من الجانب التربوي فقدم د.هاشم خلاصة تجربته من خلال الإشراف على الرسائل الجامعية في جامعتي دمشق والرباط، وقدم خبرته التربوية إلى المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو، إضافة إلى الكتب التي ألّفها وتمحورت حول القواعد النحوية والتربية المقارنة مستعرضاً تجربة أهم المؤسسات التربوية في العصر الحاضر.
في الفصل ذاته تحدث د. السيد عن أنموذج من كتبه (الفلسفة العامة)وهو كتاب جامعي –جامعة دمشق قسم إلى النزعات الوثوقية ونزعات نفي المعرفة وفلسفات الظن.
قراءة الإبداع
من الصفحات الجميلة في الفصل تحليل أنواع القراءة وهو بحث تطرق إليه د. السيد أيضاً في كتابه “أصول تدريس قواعد اللغة العربية لطلاب الدراسات العليا”، فاشترك الباحثان في معنى القراءة المبدعة مبيّناً أن المبدعين لاتأتي أفكارهم من العدم ، فعلى سبيل المثال ابن المقفع قرأ حكمة فارس والهند قبل كتابة “الأدبين”، و”كانط” قرأ لينبتز ونيوتن وكوبرنيك قبل “نقد العقل المحض” متوصلاً إلى نتيجة بأن قراءة الإبداع هي أصعب القراءات لأنها تتطلب مراساً طويلاً.
العرب والترقيم
ومن الأمور التي درسها أيضاً د. هاشم من خلال مقاله “أثر الفكر العربي في الحضارة الإنسانية –مجلة المعلم العربي العدد الخامس -1951 دور العرب في الترقيم الذي يشبه دور الفينيقيين في إيجاد الهجاء، فالعرب هم أول من أوجدوا طريقة الإحصاء العشري واستعمال الصفر، متابعاً دور ثابت بن قرة وابن الهيثم، ودور العرب أيضاً في علم الجبر.كما اهتم بذكر دور العرب بالصناعات التطبيقية، والأثر العميق للفلسفة العربية في تاريخ فلسفة العصر الوسيط.
أيديولوجيا عربية
المحور الهام الذي توقف عنده الباحث د. السيد هو الموازنة بين الثورة التي تقوم على الدم والثورة التي تقوم على الفكر المستنير وتؤمن الاستقرار، وذلك في مقاله”ثورة الدم وثورة الفكر”-مجلة المعلم العربي -1951وتتالت مقالات د. هاشم التي توقف عندها د. السيد مثل مقاله “لماذا لايكون لنا أيديولوجيا عربية –مجلة الثقافة العدد الثالث عام 1958، ليخلص إلى أن التحليل بالفكر العلمي الموضوعي، والشعور بالأصالة العربية، والانفتاح على العالم الإنساني، وممارسة العمل المجدي، هي خطوط عريضة لأيديولوجيا عربية.
علم النفس الجماعي
في الفصل الثالث “حكمة هاشم مترجماً” أفرد الباحث مساحة للأبحاث والدراسات والكتب التي ترجمها عن الفرنسية مثل “عرفان الذات ومركزية الأنا” وهي دراسة منشورة بالفرنسية في مجال علم نفس الطفل لجان بورجاد، قام د. هاشم بتعريبها، وأشار فيها إلى أن قمة الاستقلال الشخصي هي عرفان المرء ذاته، نشرت في مجلة المعلم العربي- العدد الثالث 1950، وكتاب المذاهب الفلسفية للدكتور أندره كريسون، ويهدف الكتاب إلى تصنيف ما تصوره التفكير الفلسفي من أنماط المذاهب، وكتاب المدخل إلى علم النفس الجماعي للدكتور شارل بلوندل، ويتعلق بدراسة القضايا المتصلة بالحياة العقلية والعاطفية، وفي خلاصة الكتاب بيّن الفروق بين علم النفس الجماعي وعلم نفس الشعوب.
عنفوان اللغة العربية
وفيما يتعلق بالفصل الرابع “حكمة هاشم مدققاً ومحاضراً” استعرض الباحث إسهامات هاشم بتدقيقات حول نقد الغزالي لمذهب المشائين والأفلاطونية المحدثة، نشرت في مجلة المجمع العلمي العربي –مجلد 32 –الجزء الثاني والثالث والرابع، إذ أوضح د.هاشم أن الغزالي ألمح إلى تأويلات الفلاسفة المتعلقة بموقف أفلاطون من أزلية الكون، وتابع في مقالته الثالثة الحديث عن موقف الفارابي من رأي أرسطاليس في قدم العالم وسرمديته، ومن المحاضرات التي ألقاها في جامعة الرباط “الفكر الفلسفي واللغة العربية”نشرت في المجلد 38-من مجلة مجمع اللغة العربية، وبيّن فيها أن ثمة نكبات حلت بالعرب لكنها لم تنل من عنفوان الأمة العربية، وأن سرّ اللغة العربية قائم في مرونتها وقابليتها للتكيف.
مدرسة الحياة
واختتم الكتاب بالفصل الخامس “حكمة هاشم ناقداً” بنقده جملة قضايا ثقافية واجتماعية منها، للصحافة فلسفة، والبشرية بين الحياة والموت، وما هي المدنية؟ وأفكار عن مدرسة الحياة.
الكتاب صادر عن مجمع اللغة العربية –الطبعة الأولى2016-160 صفحة من القطع الكبير.
ملده شويكاني