ثقافة

“كوردة.. هكذا تماما”.. قصائد تنسيك أن تحصي انكسارات قلبك

في حضرة أنثى حانية  قادرة على صنع الحياة هذا ما تحسه وأنت تقرأ “كوردة.. هكذا تماماً”. لوهلة تحس وأنت تقرأ بعض القصائد وكأنك تنحو إلى الماء وتكاد تترقرق، ولوهلة تحس أنك تسمو لحد القداسة وأخرى تنتابك استيهامات التراب، بالتأكيد لا تنبت الوردة من عبث.

يبدأ الديوان بابتهال، بدعوة لإقامة الحياة وكأنها صلاة، الحياة التي لن تقوم حقيقة سوى بالحب:
“ينتفض العاشق/يعتلي مئذنة الوقت/ويؤذن للصلاة/حي على الحب/حي على الورد/حي على الحياة”.
الحب هو الشاغل الأساسي لهذه المجموعة، وهو الهاجس الذي لم تبدده هذه القصائد ولا قصائد أخرى، وفي ذلك سر لا يعرفه سوى من اكتمل حبه فاندثر. وهو في تمامه التماهي بالآخر، وهو غاية المعنى ونشوة الحلم، وهذا لا يتم سوى بالخروج من الفردانية إلى الشمول، من الأنا إلى لآخر، أنا أجد نفسي بك وتجد نفسك بي:
“كم علي أن أحلم/إننا نشرب خمر المعاني/لأكون أنت.. وتكون أنا/ونصبح حراس النجم”.
وهو في قصائد المجموعة ليس تلك الحالة من الرومانسية الحالمة ولا التفجع المجاني، بل هو حالة من السمو من الحلم و الصبوة التي تتيح اجتراع المستحيل.
“كم عليك أن تحبني/كم عليَّ أن أحبك/حتى يعرّش الليلك/على وجه القمر”.
والحب هو الفعل الأكثر جدوى في تكريس الحياة، وهو تلك الحالة التي تنافي الفناء وتخاتل العدم:
“صقيع القشعريرة/يسلب العيون عشقها/والأنفاس باتت عن نفسها تسأل/فالوسواس استيقظ كالبلاء/فرش درب الروح/بشوك الانكسار.. والانحدار/فأي طريق لي غير الرحيل إليك/يا حلم اللقاء/أستعيذ بك من هول الغياب/فأنت الروح والهواء/تورق روحي كنجمة تبرق في كبد السماء”.
وكما الصوفية لا بد أن تمر بالجسد ثم تنحيه، وكما الإيمان أيضا فالحب لا براء له من الجسد، فلا حب بالروح فقط، ولكي أحب لا بد أن أكون، لابد للوردة من التراب.. من الملح، نجد ذلك في تلك القصائد التي تحتفي بالجسد.
“على شفتيك/مارست شهقتي/لهفتي/ساقني النبض لحكايات ضلالك”.
وفي الحب لا مفر من الجنون وكأن ذلك علامة وبغير هذا ليس حباً بل أداء باهت،  وهو عند الشاعرة -أي الجنون- صبوة وتوق وكأنها في مسعى لاكتمال حبها:
“أتلبس وفائي بك/رفيق في رحلات الروح/بي توق/لصلاة لم أرتكبها/لجنون لم أمارسه”.
القصيدة التي أخذت عنوانها المجموعة اختلفت في نفحها فقد استحضرت ببراعة وجمال تبديات العشق، التبديات التي اختتمت بذلك التناجي، الحوار، التناغم والتبادل بين الروح والجسد.
“هكذا كوردة../كل فجر تفتح لي كفيك/معاً/أيقونة للروح/وأختم/على قلبك/بضوء عطري”.
قصيدتان تخرجان عن موضوع الحب هما “قصيدة رثاء” موضوعها الشهادة وهي تتسم بغنائية أتت مناسبة للموضوع، وبشجن ابتعد عن الحماسة وتلك الشحنة من الانفعال الزائد التي اعتدتنا رؤيتها في تلك القصائد، فقد بنتها الشاعرة على شكل تساؤلات جهر بها أطفال لا يعرفون معنى الفراق النهائي، وبوعيهم الغض بمخيلتهم يحسبون أن أباهم أضحى نجما، أليس هذا ما نلقنهم إياه عندما نعجز عن توضيح، الشهادة لهم:
“أماه، والدنا الحنون غدا كنجم/في البعيد/صار الشهيد”.
الجميل في القصيدة إحالة السؤال إلى العمة وكأن لديها قرار لجواب لم يتم وكأن عندها اليقين:
“يا عمتي/قولي.. فـأمي لا تزال على رجاء/كيما يعود أبي/وهل سيعود/تجهر بالدعاء”.
القصيدة الأخرى، هي قصيدة بعنوان “الوطن” وهي مقاربة لما يجري حاليا، لأثر وعقابيل هذا الدمار على كل شيء.
“يا رب/كل ما حولنا يضج/بريح قبل الأمهات/لتراب القبور”.
اللغة في أغلب القصائد شفافة ومفعمة بالإحساس، ففي بعض المقاطع تبلغ الشحنة الانفعالية حد التوتر، بناء القصيدة أتى متلبساً للحالة الشعورية وبوحدات لغوية قصيرة بعيدة عن التعقيد أكسبت القصائد رشاقة وحيوية، بعض القصائد بدت وكأنها تتدفق تدفقاً وأخرى تنمو بشكل درامي.
الألفاظ مألوفة مناسبة لم تشكل عبئاً على النص، علائقية الألفاظ لم تخرج عن سياق المعتاد فليست هناك مغامرة لغوية، ربما لأن مواضيع القصائد لا تتيح ذلك، إلا في بعض المقاطع كما في هذا المقطع:
“أقسمت بالروح/وهبوب الفجر/لن أجد رباً تتسع لي/غير صدرك/فالمسافة بين وبين الحياة/ذلك الحب/الذي ينتظرني”.
“كوردة .. هكذا تماما”، مجموعة قصائد تشكل وردة لا تذبل.. وردة للحب، للحياة تميزت بجرأتها وحميميتها رغم موضوع أغلب قصائدها هو الحب وهو الأقدم والأكثر تناولاً في التجربة الأدبية للبشرية”.
المجموعة إصدار عام 2016 عن دار المراسل في 100 صفحة, وهي المجموعة الأولى للشاعرة.

مفيد عيسى أحمد