ثقافة

تـصـفـّح

غسان كامل ونوس

ليست الكلمة “تصفّح” جديدة، وهي تحيل إلى تقليبٍ متتالٍ غير متأنّ لصفحات في كتاب،أو دفتر؛وللفظ حروفها في النفس قرب وألفة وصدى، يتواءم وصوت الصفحات،تنتقل من جانب إلى جانب؛لكنّ استعمالها اليوم صار أكثف،واصطلاحها غدا أعمّ؛يشمل ميادين أخرى سوى القراءة غير المعمّقة.
كانت للكلمة متعتها الهالّة من خلال علاقتها بالكتاب،الذي كان- وما يزال- محترماً، وكانت لصفحاته أهمّيّة،ولملمسها وتقليبها أحاسيس البصر واللمس والسمع والشمّ، التي يمتلئ بها الوقت المستغرق بالقراءة والمتابعة والاهتمام.
لم تكن الكتب وصفحاتها تتنوّع كثيراً؛مقاساتٍ وسطوراً وألواناً؛تتزيّن أحياناً بصورة كائن متميّز،أو آخر،أو رسمٍ بخطوط وملامح. وكان الاهتمام الأكبر بما تحتويه،وما يستدعيه التفكير والوعي من وحي الكلمات وما وراءها،وما تتوسّله وتتوسّمه الكتابة.
وكان التصفّح متعلّقاً بأوقات ضاغطة،ما قبل الامتحانات مثلاً؛حين يُتطلّب المرور السريع على الصفحات،والتوقّف عند ما يُظَنّ أنّه الأهمّ،أو أنّ هناك حاجة لتثبيته في الذهن أكثر؛وقد يكون التصفّح لأخذ فكرة مختصرة عجلى عن الكتاب،الذي يعزّ وجوده واقتناؤه، في معرض،أو مكتبة،أو لدى صديق حريص.
ومع التقدّم في أساليب الطباعة وعناصرها،صار الاهتمام بالشكل أكبر؛مواكباً للمضمون,وعلى حسابه-ربّما-، وتعدّدت الأحجام،وضجّت الألوان،وصار للغلاف مصمّموه ومخرجوه،وللصفحات منضّدوها ومنسّقوها،وللخطوط أنواع وأشكال ومقاسات،وللصور أبعاد وألوان ودِقّات،ودخلت مفاهيم الإعلان إلى شكله الخارجيّ، والداخليّ أيضاً؛للتسويق والتقويم والجاذبيّة. وغدا التصفّح جزءاً من التعامل مع الكتاب أو المطبوعة؛تتصفّح، فتنجذب، فتقتني، أو تذهب إلى سواه. ربّما كان لتنوّع المضمون،ودخول موضوعات جديدة أكثر استهلاكيّة وعموميّة،أهمّيّة في ذلك؛ فلم يعد الشكل الفاخر يقتصر على المعاجم،والمجلّدات،والمراجع،والكتب الدينيّة المقدّسة وسواها؛بل صار يمكن لأيّ قادر أو نافذ، أن يصدّر أعماله الأولى أو الأخيرة، الكاملة أو غير الكاملة،بتجليد فاخر،وبصرف النظر عن جودة المضمون أو تميّزه؛ كما يمكن لمقتنٍ مكتنز أن “يزيّن” خزائنه بمجلّدات تناسب المكانة والمكان!.
أمّا الآن،ومنذ سنوات غير بعيدة، فيمكن الكلام عن التصفّح بكثافة أكبر،بعد دخول الفضاء الالكتروني أحيازنا الأرضيّة الواقعيّة،وصار تعاملنا (الاجتماعيّ) أو “تصفّحنا” أكبر،عبر هذا الفضاء الافتراضيّ،وعنه، وعن سواه من فضاءات. وصار للكثيرين صفحات الكترونيّة،جلّها ذو مضمون عاديّ،سطحيّ،حياتيّ. فيما باتت وسائل التواصل الاجتماعيّ هذه،تعدّ انتقالاً عصريّاً في الزمن،من كلام النساء (على التنّور) أوعلى العين؛أو الرجال في الساحة،أو تحت الشجر المعمّر،أو في المقهى،إلى الفضاء الالكتروني. الفارق هنا أنّ الوقت كلّه لك،تقول ما تشاء، أو تكتب ما تشاء،لا أحد يقاطعك،ويأخذ الحديث منك،ويستأثر بالحضرة. لكنّ هذه “الديمقراطيّة” الفسيحة مضيّعة لأشياء عزيزة؛ فأفقدتك الاستماع وأهمّيّته وجدواه، وأفقدت ما تقول التقويم الهادئ والملاحظة المعمّقة المفيدة.. وصارت جلّ التعليقات سريعة،والمدائح مجّانيّة،والألقاب بلا تعب أو حساب،أمام شراهة القول والتعبير وحبّ الحضور،ولم يعد أمامك،ولا أمام سواك الكثيرين بلا عدّ، الوقتُ الكافي لمتابعة ما يقوله آخرون في مواقعهم أو صفحاتهم،وصرت تتصفّح ما يقولون وما يطرحون بلا اهتمام،وبلا تدقيق،إلّا من يهمّك أمره، أو يهمّه إعجابك،وقليلاً ما تتوقّف للتأمّل أكثر، والاسترشاد والاستفادة.. وصار الكمّ المطروح كبيراً وكثيفاً ومتنوّعاً وفائضاً؛ فلا الوقت يسمح، ولا العقل يتفرّغ أو يستهدي،ولا الحواس تتبيّن أو تتذوّق،ولم يعد للصفحة معناها المعروف؛ وحجمها المألوف،وحدودها ورسمها ووقعها… وصار التصفّح فعلاً أصليّاً ودوريّاً، ومستمرّاً يصل حدّ الإدمان- ربّما- بعدما كان استثنائيّاً ضروريّاً للمراجعة والتثبّت، في أوقات محدّدة؛ فيما الفعل الأصليّ الحقيقيّ كان، ويفترض أن يبقى، متمثّلاً بالقراءة المعمّقة،والتحليل والمناقشة والاستنتاج.
لقد غدا التصفّح، إذن، في لغة العصر وأدبيّاته، لدى القرّاء، والمتابعين بلا هواية أو هدى، عادةً وبرنامج عمل، وسياسة يُلجأ إليها في الإعلام، الذي تطوّر هو الآخر؛ تسارع وتكاثف وتلوّن، وشاغل وتشاغل؛ فصار يضخّ قدراً كبيراً من الصور والأقوال والمشاهد والحركات في أوقات ضيّقة، فيتشوّش الذهن، ويتشتّت، ويتعلّق بما يُبثّ، ويُلِحّ ويهيمن، ويسوّق، وقد يتوهّم ويتعصّب، ويصبح عاجزاً عن الدخول أكثر في عمق الأشياء ومناقشتها، واتّخاذ موقف بشأنها، فتسهل استمالته أو استتباعه أو تضليله، وقد يكون ذلك أهون وأمتع لديه أيضاً؛ من دون أن يعلم، مدى الخسران في ذلك طاقيّاً وعمليّاً وإنسانيّاً.