تـعـوُّد!!
بشرى الحكيم
في روايته “أعدائي” يورد الرائع ممدوح عدوان تعريفاً لمعنى التعوّد: حيث استمع يوماً في المدرسة إلى شرح مبسّط يعرّف بالفكرة؛ فحين نشمّ رائحةَ كريهة ما نشعر بالضيق، فنتذمر ونحاول جاهدين الابتعاد عنها؛ ذلك أن الجملة العصبية قد تم تنبيهها لوجود خطرِ ما أو وجود أمر غير عادي من قبل الشعيرات الحسّاسة في مجرى الشم؛ والذي يعتبر بشكل ما خط دفاع أول؛ لكن وبمرور الوقت مع البقاء إلى جانب تلك الرائحة فإن شعور الضيق هذا يبدأ بالتّلاشي شيئاً فشيئاً إلى درجة أننا ربما ننساها؛ ما يعني أننا اعتدنا وجودها؛ ولهذا الأمر تفسير علمي بسيط علينا التسليم به وهو أن تلك الشعيرات الحساسة قد قُتلت واغتيلت من قبل تلك الرائحة الغريبة؛ فباتت جملتنا العصبية عزلاء وقد خسرت خط دفاعها الأول الذي لم يعد قادراً على القيام بمهامه في التنبيه إلى وجود رائحة عدوّة، وهي عملية أشبه بقتل كلب الحراسة في حقل تترصده الذئاب ربما.
لكن، ليت الأمر يتوقف على الاعتياد على الروائح بمعناها الدقيق، بل إنه وللأسف أمر ينسحب على العديد من المسائل الحياتية والأساسية؛ فنحن في زمن يرغمنا على اعتياد الكثير مما يأباه العقل والمبادئ والأخلاق، بحيث بتنا نعتاد تشويه التاريخ والحقائق على الشاشات من خلال مسلسلات أتعبنا تكرار الإشارة إلى سموم أفكارها، وبرامج ترفيهية تتفنن في المقالب والسخرية والاستهزاء بالكرامات، لا بل؛ إنه ربما سيأتي اليوم الذي يُطلب إلينا فيه أن نتآلف وظهور مثقفينا المريب على شاشات العدو يروجون له بحجة الترويج لأعمالهم وإبداعاتهم، والمثال في ظهور أمين معلوف الأخير على شاشة I24 القناة التلفزيونيّة الإسرائيليّة، التي تبثّ بثلاث لغات، العربيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة، وتستهدف أساساً المجتمع العربيّ، حيث قوبل الحدث بآراء عديدة، ورغم تصاعد المطالبات بالمقاطعة والاعتذار؛ وتراها لا تفيد حملات التنديد-وهل أفادتنا من قبل- والمطالبة بالاعتذار وقد أصبح عكازتنا ومبررنا المسبق لكل أفعالنا المريبة والشنيعة التي نخطط للقيام بها.
إلا أن ما يحز في النفس أن بعض الأصوات كان لها رأي سمي “بالمعتدل” وضع اللقاء في خانة الانفتاح الفكري والقبول بالآخر متناسين أنها قناة وضعت في خدمة دولة الاحتلال، في سعي حثيث لمؤسسها “فرانك ملول” لمحاربة ما أسماه الجهل والأحكام المسبقة ضد إسرائيل، ذلك من خلال استضافة القناة المدروسة لمحللين ومثقفين من العالم العربي، تأكيداً منها على “موضوعيتها” ونزاهتها “والأنكى” قبولها بالآخر الذي هو “نحن” أمام العالم!.
فهل تراه صدّقَ “أمين معلوف” أن ظهوره كان ثقافياَ بحتاَ لا دعوى له بالسياسة، أم أنه يتوقع أننا لم نقرأ بين سطور كتاباته ترويجه للتطبيع المبطن من خلال تساؤلاته المريبة حول “الهويات القاتلة” على الأقل، هو الذي ردّد دوماَ أن “كلا الاثنين -وقد ساوى بين الفلسطينيين والإسرائيليين- خاسرين” أم أنه سها عن باله أن العديد من المقلدين والذين يرون في المبدعين أمثولة يجدر الاقتداء بهم، سيقتفون أثره والفعل وعلى الدنيا السلام؟ فيكون التعوّد في أبهى صوره في الترويج للآراء عبر الترويج للأعداء. أم أننا أمام حاجة ماسّة للتعريف من جديد وبشكل جديد بمعنى “تطبيع” و”الأنكى” تعريف جديد “للعدو”.