في ذكرى المدرس
أكسم طلاع
في بداية التسعينيات من القرن الماضي، صدر عن جريدة البعث ملحق ثقافي أسبوعي، تضمن العدد الأول منه مقابلة مع الفنان فاتح المدرس، ولم تمنع أسئلة المحرر التقليدية الفنان من التحدث والإجابة بسجيته البسيطة الدالة على عمق الفكرة، وسعة الوعي والخبرة التي يمتلكها، تحدّث المدرس عن الخط واللون والفكرة في العمل الفني، وعن التاريخ والأسطورة السورية، وعن الريف السوري وفلاحاته، وعن نزوع الفنان القلق نحو الابتكار والتجديد، وأهمية استيعاب الفنان لشروط المحلية والبيئة التي تجعل منه عالميا، حين يكون مخلصا وملمّاً بتفاصيلها وأمينا على هويته، استذكر ذاك الحوار المثقف لهذا الفنان العظيم بعد ربع قرن، وأنا أعبر أحد الشوارع القريبة من ساحة النجمة بدمشق، ماراً بالقرب من المكان الذي كان يوماً ملتقى لأهل الجمال والثقافة والمبدعين وطلبة الفنون، إنه مرسم الفنان فاتح المدرس الذي يقع أسفل ذلك البناء، المتوسط الارتفاع وفي نهاية ممره الجانبي الأيمن نهبط عدداً من الدرجات، حيث ذلك القبو برطوبته ورائحته، وأنفاس صاحبه التي عاشت واستمرت بعده لسنوات بجهود محبيه وزوجته شكران الإمام التي لم تنقطع عن فتح باب المكان طيلة السنوات اللاحقة، تستقبل زملاء الفنان وتعرض لبعضهم أعمالهم وقد سمّت المكان “صالة الفنان الراحل فاتح المدرس” وبالفعل كانت هذه الصالة من الصالات المتميزة في دمشق، بسوية معارضها وجمهورها وأصدقائها.
رحلت شكران في شهر أيلول من العام الماضي وحيدة وحزينة، كما رحل قبلها بـ17 عاماً فاتح المدرس الذي بقيت أنفاسه وآثاره، وبقيت تلك النظرة التي يعلوها ذاك الحاجب الطويل للرجل العجوز، الذي ولد شمال ريف حلب وتوفي في دمشق، ورسم البلاد وكتب الشعر والقصة وقدم للفن التشكيلي ولطلابه الكثير، وقال أجمل الكلام في بلده وجمال سورية، ورسم وجوه الفلاحات والسهول المفتوحة للشمس، كما رسم القلمون والتلال التي احتضنت معلولا والأديرة القديمة.
استحق فاتح المدرس بجدارة أن يكون رائد الحداثة في التشكيل السوري، ويستحق بجدارة أن يكون إحدى الهويات الجميلة لهذه البلاد، لأنه عاش حارساً للجمال فيها ومات جميلاً. في مثل هذا اليوم من عام 1999 أغمض فاتح إحدى عينيه وترك الأخرى مفتوحة للشمس.