ثقافة

بيت كبير

بشرى الحكيم
من نافذة الغرفة- وكنت ما زلت طالبة على مقاعد الدرس، وأقيم في السكن الجامعي- كنت أنظر لأرى مبناها الجديد يختال بين الأبنية على امتداد الطريق الطويل الذي يسمى أتوستراد المزة، فجأة صوت انفجار مدوِّ يصمّ الآذان، بينما عمودُ من دخانٍ أسودَ يرتفع في السماء؛ دقائق وبعدها لن يتوقف رنين هاتف السكن وأسئلة الأهل: “هل أنت بخير”؟ كان التفجير قد استهدف مبنى الجريدة إياه.
لم اعرف كيف أصبحت على الطريق، أركض يسبقني عقلي وقلبي؛ خوفاً وقلقاً على المكان الذي اخترت له أن يكون بيتي حتى اليوم، وعلى العائلة التي باتت عائلتي “شاءت أم أبت” حتى اللحظة.
ترى أهو التاريخ الآن يهوى إعادة نفسه؛ أم أن الغباء يودي بالبعض للعيش في صفحاته السود، لكن وبالرغم من ذلك ولأن المنطق والعقل يقول، ولأن كل ما فينا أيضاً يقول؛ بأن الصحف حاجة أبدية حتمية وحقيقية، لا يحدها وقت أو زمان، فالأمس كان زمانها، وهي كذلك حتى اليوم، هي موجودة وباقية بفعل وجود الإنسان الواعي، وجود لا بديل عنه؛ سواء في السابق أم في الزمن القادم الذي يبشرنا كل حين ببدائل لم ترقَ حتى اللحظة كي تتمكن من احتلال مكانها، فهل استطاعت حتى اللحظة تلك الوسائط مجاراتها فيما تقدمه “فكراً ومضموناً وغلالاً” وملاذاً للمحبين والعشاق؟ ولأنها كانت؛ كذلك يومها كان القرار أن ليس لمحاولة غبية ودنيئة أن توقف عجلة الحياة والعمل عن الدوران، فتمت طباعة العدد في مطابع جريدة تشرين.
على حياء وتردد؛ في مبناها القديم “مقابل فندق أمية الكبير” وسط المدينة، بدأ مشواري معها، إلى عالمها الساحر دلفت من بوابتها القديمة السوداء قلت في نفسي: “بضع سنين؛ أنهي دراستي وانطلق إلى العالم الذي ينتظرني” لكن كيف لنا أن نقاوم سحرها، كيف لمن وقع في الغرام أن يفارق!.
في قاعاتها الواسعة في المبنى الجديد؛ تعلمت صنعتها من ألفها إلى يائها، وفي ذات القاعات الواسعة أيضاً مارسنا شقاوة الصبا، شباباً في بداية حياتهم العملية والدراسية؛ في أوقات الراحة “لعبنا كرة القدم الورقية” حيث لا ساعات عمل محدودة؛ وحيث لا يغادر واحدنا إلا وقد اطمأن “لقد أنجزت عملي كاملاً” أو “أنهيت عمل زميلي الغائب” ولا منّة لأحد على الآخر.
سنوات طويلة في جنباتها، وأقسامها كان الهم والجهد مبذولاً ومخلصاً لنقل معاناة الناس، همومهم؛ مشاكلهم وشكاويهم، وكانت المتعة كل المتعة، حين كان الصوت يصل ليعود الصدى رضا الناس.
جئناها والأحلام ترسم لنا دروباً بعيدة، وإن هي إلا رفّة عين؛ حتى مرت حيوات بين جدرانها، هاجس ليلنا: “رحلة الصباح من البيت إلى البيت الكبير” حيث يُختزل تاريخ وطنٍ جميلً بكل مناحيه، وحيث ولدت صحيفة في زمنٍ سوري؛ عَبر بالوطن إلى آفاق بعيدة “لن يحدها ما يجري اليوم” وأحلام كبرى عشناها سنوات عزٍّ وخير وقبول الكل للكل، إذ يكفيني أني كنت وما زلت حتى اللحظة أُقابِل بالضحكة؛ دهشة واستنكار السؤال: “كيف أنت في جريدة البعث؛ والهوى قومي”؟!. وها نحن حتى اليوم والهم والهوى واحد.
وها هي الذكرى تأتي تحمل ذات العبق العتيق الذي أسس لها، يغتسل بروح العصر وإن وشّاها خيط الدماء سواء بالأمس أو الحاضر، فهو لا بد يحمل روح وآمال كل من عملوا فيها بوفاء وإخلاص؛ منهم من قضى خلف مكتبه أو أمضى عمراً بين جدرانها، أو هؤلاء الذين ما زالوا يدورون في جنباتها، والقادمين المقبلين بالحب إليها، ليكونوا معها جميعاً الصوت والصدى الذي يحكي للعالم قصة بلدٍ كريم أبي يحب الحياة ولا يخشى المواجهة، أبناؤه أبناء حياة، لا يرضون سوى بالعزّ، يحفر اسم وطن عزيز وغالِ على صفحات الأزمنة الخالدة.