ثقافة

“مصعد الساعة الرابعة”.. جمالية التشابيه المؤكدة

معنى آخر للحبّ يقرع أجراس الذات برقة التعابير والتشابيه المؤكدة التي تغلغلت في عتبات السرد المغرقة بمناخات الطبيعة الريفية “تلك المرأة تشبه مطر الخريف وضوء القمر..تشبه ليلة صيفية”، وفي مواضع أخرى”ضحكتها تشبه رغيف خبز يخرج لتوّه من التنور”، فسمة التشابيه كانت الخاصة الأساسية التي بنى عليها د.جرجس حوراني قصصه المتعددة في مجموعته”مصعد الساعة الرابعة” الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب لتتماهى بنسج أسطر مفعمة بروح شعرية استمدت مفرداتها من الطبيعة على امتداد صفحات المجموعة التي لاتخلو من مظاهر حضارية رافقت حركية بعض الشخوص، الأمر الملفت هو اختلاف أسلوبية القاص بالمتن الحكائي، وبصورة خاصة بالمقدمة التي تنحو حيناً نحو الوصف السينمائي للولوج إلى الصورة الوصفية للنصّ”كانت العاصفة الممطرة لاتزال تهاجم القرية بعنف عندما احتوته العربة الخشبية العتيقة التي يجرها حصانه الأبيض، وراح يمزق صمت الطريق الذي يضيئه مصباح واحد”،-قصة رغبات- في حين اقترب من اللغة الواقعية في بعض المقدمات”زوجتي امرأة مثقفة تتهمني بالجهل. أما لماذا تزوجتني فلأنها أحبتني كما قالت”-قصة الرجل الذي حمل العطش- بينما اعتمد على الحالة الوصفية للذات في بقية المقدمات مثل قصة- مصعد الساعة الرابعة- التي حملت اسم المجموعة” في هذه الغرفة تستقر الكرسي التي تحملني والتي ملّت مني هي الأخرى” وفي مقدمة قصة رسالة حبّ بدأ بالسرد المباشر “كانت رسالتها الأولى مفعمة بالحبّ، فلا أتذكر أنني قرأتُ مثل تلك الكلمات الناعمة التي تداعب القلب بطريقة سحرية”.
ولم تتميز المجموعة من حيث الشكل السردي للتشابيه المؤكدة والحالة الوصفية والتنوع بالمقدمات فقط، إذ اعتمد القاص على خاصية تقطيع اللغة السردية في بعض القصص إلى أجزاء على غرار تقنية المتصل- المنفصل، كما في قصة لعبة البكاء”ذكرى- 1- عندما ابتلعه السجن اختلفت آراء الشلة حول مروان” لتتميز عن التتابع السردي المتناوب بين الحواريات المقتضبة والسردية بضمير المتكلم.
وفي المنحى العام للسياق القصصي نلمح تأثر القاص بمهنته الأساسية بممارسة الطب، لتكون بعض الأمراض مثل الأزمة القلبية أو الجلطة الدماغية أو المرض الخبيث أحد المحاور الأساسية للحدث القصصي، وتتسرب لغة القصّ أيضاً إلى ملامح علم النفس بالتركيز على الحلم والربط بين حالة الوعي واللاوعي، والهروب من الواقع إلى النسيان لحماية الذات”يخسر الإنسان أشياءَه الجميلة ويهرب إلى دوامة النسيان”، وبالرمزية بالإشارة إلى موطن الأسرار باللجوء إلى مكان ما كما تكررت دلالية الخزانة في أكثر من قصة.
السمة العامة التي تخيم على صفحات المجموعة هي الحبّ ومحاولة القاص تفسير العلاقات الروحية والوجدانية التي تختلف بين العاشقين والأزواج، بدا هذا واضحاً في قصة” أحلام مؤجلة” كان الشتاء يفعل فعله..وفي كل بيت هناك ما يشبه الحرب”.
ومن حيث تكاملية الوحدة القصصية بين الشكل السردي للقصة والمضمون الإنساني نجد أيضاً اختلافاً فهناك قصص تقوم على وصف الحالة الراهنة دون الوصول إلى نهاية، وهناك قصص تدهشنا بنهاياتها وفق مبدأ الشكل التقليدي للقصّ.
الاستسلام للقدر
رغم الرومانسية التي تغلف المجموعة وقدرة القاص على استلهام روح الدفء من مفردات الطبيعة وسحر المرأة، إلا أنه كان واقعياً في تصوير حالات يعيشها الإنسان ويعجز عن تغييرها رغم أمنياته وتطلعاته، فيرضخ للأقدار ويستسلم في حالة يأس، مثل قصة”رغبات” التي تسرد حكاية شاب يريد متابعة دراسته ورغم تشجيع جده يجد نفسه منساقاً لرغبة والده بترك المدرسة ومساعدته بالحقل ليمضي حياته كوالده وجده، “هززتُ رأسي موافقاً وقد نسيتُ المدرسة والمعلمة والأحلام والرغبات دفعة واحدة” ص121
وفي قصة” الرجل الذي حمل العطش” تستسلم الزوجة المثقفة لرغبة زوجها في امتلاك الجرار، وشراء الماء وبيعه إلى القرى المجاورة بدافع الحبّ”كانت زوجتي التي تشبه يوم السفر تنظر إليّ بغضب وتقول: لقد أبحرت في الجهل” ص165

وجه آخر للحبّ
في القصة التي حملت اسم المجموعة”مصعد الساعة الرابعة” تمكن القاص من إيضاح قيمة الحبّ في الحياة حتى لو كان حالة عامة لايقترب من أسوار الذات ليكون علاجاً يهب حياة جديدة للإنسان، إذ وصف حالة مرضية لامرأة جعلتها حبيسة الكرسي المتحرك بعد أن كانت مديرة أكبر مدرسة في المدينة، وعجز الأطباء عن مداواتها، لكن اللقاء العاطفي اليومي في تمام الساعة الرابعة في المصعد الزجاجي للبناء المقابل جعلها تقف على قدميها من جديد “لكنها تمتعت بالحياة التي كانت تصعد وتنزل في هذا المصعد، وهذه الحياة نفسها تسربت عبر زجاج المصعد وتغلغلت في شرايينها” ص132.
وتمكّن القاص من شدّ القارئ إلى قصة حبّ غامضة ثلاثية الأطراف الزوج والزوجة والعاشقة رغم تكرار الفكرة، من خلال الولوج إلى الصراع الداخلي للعاشق برفض كلمات العشق في البداية “لتتسلل مثل الضوء إلى غرفة نومي إلى أحلامي وذاكرتي تعبث بي” ص 95 ليدهشنا القاص برنين جهاز زوجته المحمول بحقيبتها حينما أراد الاتصال بصاحبة الرسائل.

ملده شويكاني