من يحفظ تراثنا من الاندثار
جلال نديم صالح
للهواء في دمشق القديمة عبق مختلف، وللأروقة والحارات والجدران المتكئة على التاريخ قصص لا تنتهي، من يزور ذلك المكان يشهد للأسف الواقع الذي باتت تعيشه تلك البقعة الأثرية التي سجلت على لائحة التراث العالمي عام 1979، وهي تلخص الكثير من تاريخ هذه المدينة العريقة وأقصد هنا “البيوت العربية” التي تجمع بين هندسة البناء والتصميم والجمال، وهو ما تجسد كثيراً في الأعمال الفنية كإشارة لدمشق، ونظرة بسيطة لتلك المنازل تنبئ أن غالبيتها آيلة للسقوط، حتى أن بعض تلك البيوت تبدو للوهلة الأولى وكأنها مهجورة وأقرب “للخرابة” ليفاجأ المرء لاحقاً بعائلة أو أكثر تعيش في جزء من المنزل في حين لم يبق من الجزء الآخر سوى الأنقاض. ولا أعلم إن كنا قد وصلنا حقاً إلى مرحلة الاقتناع بأهمية تلك الثروة التي نملكها ولا تقدر بثمن، لأنها تعبر عن فترات وحقب زمنية لحضارات وشعوب تعاقبت على المكان، فقد شهدنا في العام 2010 ترميماً لعدة منازل تاريخ بعضها يعود إلى نحو ثلاثة قرون من الزمن، كان الهدف استثمارها سياحياً بتحويلها إلى فنادق، ولم نشهد لاحقاً الاهتمام بما تبقى، لأن غالبية المنازل مازالت ترزح تحت وطأة قرارات الاستملاك التي طالتها، وجعلتها مناطق محمية بموجب القوانين لا يجوز أن يجرى عليها أي تعديل أو ترميم، حفاظاً على طرازها المعماري وروح العصر الذي تعود إليه، وما يعانيه من يعيشون هناك ينطبق عليهم المثل “صحيح لا تقسم ومقسوم لا تأكل” فهم يعيشون في بيوت منهارة ولا يحق لهم إجراء أي ترميم، حتى لو افترضنا أن لدى بعضهم الإمكانات المادية لإجراء الترميم المطلوب، وهنا لا نتحدث عن ترميم عادي بل عن جانب فني يحتاج لخبراء في هذا المجال، وليس لعمال بناء فقط، فهو بطبيعة الحال يحتاج لإمكانات مادية كبيرة، وجهود مؤسسات والمشكلة التي تبرز بوضوح هي تشتت المسؤوليات لأننا للأسف لم نحصر الجهة التي تتبع لها أماكننا الأثرية إلى اليوم، منها ما يتبع لمحافظة دمشق ومنها ما يتبع للآثار والمتاحف أو لوزارة السياحة، هذا التشتت يضيّع الجهود ويصبح الواقع أكثر تعقيداً، خصوصاً عندما تتداخل تلك المسؤوليات، والدليل ما حدث قبل سنوات تحت مسمي الترميم الذي تم لبعض المنازل التي لم تعد تقوى على الصمود، وأصبح السقوط المحتوم هو ما ينتظرها.
من يتابع ما تم بالفعل لن يجد سوى بعض الجسور والأعمدة الحديدية التي تتوزع هنا وهناك ولم تحقق شيئاً سوى تشويه المكان، لأنها تنتصب غريبة عن كل ما حولها، وهذا الواقع يدفعنا للتساؤل لماذا لم نحصر المسؤولية عن هذا التراث الذي لا يقدر بثمن إلى الآن بجهة واحدة قادرة فنياً وتقنياً على القيام بدورها، على أن تلقى الدعم وكافة التسهيلات من الجهات الأخرى صاحبة الصلة، فكل مؤسساتنا معنية من قريب أو بعيد بالحفاظ على تاريخنا وحضارتنا، شرط ألا ننسى أصحاب الحق الأساسي مالكي تلك المنازل الذين يشكلون الجزء الأهم من تاريخها.