ثقافة

من أمسيات مهرجان الموسيقا.. “بسيليس” اختزلت أوجاع السوريين ومكارم عزف لدمشق

ليس غريباً أن توقظ ميادة بسيليس بصوتها الملون بين الحزن والفرح القناديل المطفأة في أعماق الجمهور لتحيل مسرح الأوبرا إلى شعلة تضيء من عتمة الموت، لاسيما برسالتها إلى حلب الجريحة كي تنهض من جديد لتحيا بتصميم الشعب السوري”أنا مشتاقة عمّرها من جديد” مع نغمات الإيقاعيات والوتريات، لتقدم مع الفرقة الوطنية السورية بقيادة المايسترو عدنان فتح الله في افتتاح مهرجان الموسيقا العربية الثالث على مسرح الأوبرا أنماطاً موسيقية مختلفة للجمل اللحنية، لاسيما في أغنية “وسختوا الصابون” التي تميّزت بإيقاعيات حركية، وأبدعت بسيليس بتوظيف تقنيات صوتها لاسيما في قفلة كل أغنية، ليظهر امتداد صوتها وتدرجات طبقاته في مفردة يا “غالي”.
تميّزت الأمسية بتشاركية الإيقاعيات الغربية، بنكوز –تيمبني –درامز – سنابل- والشرقية، وكان لها حضور واضح مع الترومبون والترومبيت التي اتخذت في مواضع دور مفاصل لحنية حادة، يقابلها صولو الغيتار-طارق صالحية- الذي أضفى جمالية لحنية، إضافة إلى الناي-إبراهيم كدر- الذي استحوذ على إعجاب الحاضرين، ليبقى المحور الأساسي للبيانو-نور كويفاتي.
أما مفاجأة الأمسية فكانت أغنية “ويضلوا يقولوا” التي قُدمت بإطار ثلاثي غنائي وموسيقي جمع بين بسيليس ونغمات البيانو التي ألفها وعزفها الموسيقار سمير كويفاتي مع عازف الساكسفون- شادي مارينا- الذي قدم صولو باح بالحلم الشفيف الذي خيم على الأغنية.
والأمر اللافت أيضاً قدرة العازفين في الفرقة على الأداء بمهارة والتواصل مع المايسترو عدنان فتح الله، وفي منحى آخر قدرة بعض العازفين في الفرقة على العزف على أكثر من آلة مثل العازف علي أحمد الذي عزف على التمبني والطبلة وكاوبل والبنكوز والطار، والعازف شادي مارينا الذي عزف على غيتار بيس مع الفرقة.
الشيء الجديد إطلاق بسيليس ألبومها الجديد من ألحان وتوزيع المؤلف والملحن سمير كويفاتي والإعداد الموسيقي للأوركسترا الموسيقي إياد عثمان وكمال سكيكر، لكن الألبوم الجديد لم يطغَ على أرشيف بسيليس الغنائي، بدا هذا واضحاً في تفاعل الجمهور معها وهي تغني” خليني على قدي وياغالي ويا جبل ما يهزّك ريح”.
ومن الأغنيات التي كانت ذات وقع أغنية “شو تأملت” بالجملة اللحنية الخاصة بجملة “ما تغيرت” وأغنية الشارة الدرامية لمسلسل أيام لاتنسى “احملني” إذ تغيّر مسار الأمسية بفنية الإضاءة للون البنفسجي المعبّر عن الحلم المنشود مع نغمات البيانو التي رافقتها للعازفة نور كويفاتي، إلى القفلة الساحرة لتدرجات صوت بسيليس للمفردة المكررة “احملني” دون مرافقة لحنية، إلى الأغنية التي حملت اسم الألبوم “أنت بقلبي” وتميزت بتوليفة بين الآلات مع الغيتار والنحاسيات، وبتخصيص جملة لحنية حادة وقوية في “مهما طال”.
إيقاعات ساخرة
نتوقف عند الأغنية التي حمّلت مفرداتها شيئاً مما يحدث بإطار رمزي وساخر على ألحان إيقاعية راقصة فرحة وبتكرار الجملة اللحنية لـ”وسختوا الصابون”، وبدت المؤثرات الصوتية واضحة من خلال الآلة الإيقاعية كاوبل التي عزف عليها علي أحمد والتي تصدر لحناً معدنياً براقاً سبق تناغم النحاسيات والإيقاعيات، لنلمح فيها تقاطعاً ما مع ألحان زياد الرحباني- كما صرح كويفاتي في حديث سابق له في أحد المواقع-، في حين شكّلت الطبول الكبيرة لآلة التمبني للعازف علي أحمد علامة لحنية للتنبه في أغنية “حلب” كلمات سمير كويفاتي أنا مشتاقة عمرها، إلى “سري بالشام” التي تميزت بكلماتها التي كتبها د. عماد فوزي شعيبي باللغة العربية الفصحى “يا شام أنت الزمان” وترجمت نغمات الناي والعود كلحن مرافق للوتريات، جماليات الشام المتألقة بصوت بسيليس.
مكارم والتأليف الموسيقي
بعيداً عن الغناء تضمن مهرجان الموسيقا أمسية خاصة للموسيقا الآلية لأوركسترا دمشق بقيادة المايسترو عاصم مكارم لتقديم مجموعة من مؤلفاته الموسيقية بإشراف الموسيقي محمد زغلول، لتتسرب تلك اللغة العالمية القائمة على قوانين الفيزياء الموسيقي والتداخل بين المقامات والصيغ اللحنية والأبعاد الصوتية الهارمونية. عاصم مكارم المؤلف السوري الحائز على تقدير من الأكاديمية الملكية البريطانية للفنون، وعضو الجمعية العالمية لمؤلفي وناشري الموسيقا في باريس، أغنى الموسيقا السورية بمقطوعاته التي توحي للجمهور بتداعيات الموسيقا التصويرية التي تختزل الصورة البصرية للحياة، معتمداً بالدرجة الأولى على قدرة المتلقي على التخيّل والتلقي والتحليل وصولاً إلى القيمة الإنسانية للحامل الموسيقي والفكري المترجم لحالات إنسانية.
والأمر اللافت في الأمسية حضور البيانو- العازف إياد جناوي- بمساحة كبيرة في بعض المقطوعات، ما يدل على توظيف مكارم هذه الآلة الهارمونية ذات الكتلة الكبيرة للصوت بأبعاد مختلفة ومستويات متعددة مستفيداً من دراسته الأكاديمية لها، ومن رؤيته للتداخل الموسيقي بين الوتريات والآلات النحاسية والإيقاعية الغربية والشرقية بحضور البيس درام والجمبة وتريانغل مع آلات النفخ الخشبية، تميّزت الأمسية أيضاً بتشاركية البيانو مع الإيقاعيات الغربية، وبقالب صولو ثلاثي  بين الكمان –رشيد هلال –والفيولا -المثنى علي- والناي –ربيع عزام في المقطوعة الأجمل “غريب في كاركاس” .
ومما يلفت الانتباه أيضاً غرائبية العناوين والإيحاءات التي نلمح في بعضها إسقاطات على الواقع لاسيما في مقطوعة الدوامة، والحنين إلى كل الجماليات والروحانيات في مقطوعة دمشق القديمة.
البيانو وبقايا عطر
أوحت مقطوعة بقايا عطر بقصة حبّ تركت جرحاً لايندمل ينكثه أنين الذكريات مثل همسات بقايا عطر انتثر شذاه في زمان ومكان ما، فأخذت نغمات البيانو المساحة الأكبر للمقطوعة كمقدمة موسيقية وكتلوين بلحن مرافق مع العازف إياد جناوي، لتتقاطع تلك المساحة مع الدرامز للعازف سيمون مريش والإيقاعيات والقانون، وتعود نغمات البيانو لتغلق قصة سطرها الزمن وانتهت بقفلة موسيقية.
في حين شغلت الوتريات بأنواعها مساحة كبيرة في مقطوعة “دمشق القديمة” التي حملت روح الحضارات المتعاقبة والروحانيات العبقة المعشقة بالجوامع والكنائس، تداخلت مع تأثيرات صوتية لآلة الصاجات التي توحي بصوت خلاخيل الأحصنة، إيماءة إلى التاريخ العريق لأقدم عاصمة، تتقاطع إلى حدّ ما مع موسيقا مقطوعة كرنفال مفاجئ التي أوحت بفرح مفاجئ يخيم على الذات مع الجمل اللحنية الراقصة المتناغمة مع مؤثرات صوتية للآلة الإيقاعية” تريانغل” التي عزفها علي أحمد مع مقطوعة ليالي التي اشتركت فيها أغلب الآلات بتوليفة تعبّر عن الحياة.
الباصون مع الناي والعود
الأمر اللافت كان مقطوعة غريب في كاراكاس التي استحوذت على إعجاب الجمهور والتي تميّزت بحضور الناي والعود بمرافقة لحنية تداخلت مع الحضور الكبير لآلات النفخ الخشبية وخاصة الباصون –العازف طوني الأمير- لتتسلل إلى ذاتنا نغمات النحاسيات التي جاءت بوقع هادئ خلافاً للمعتاد عليه، واتسمت بقالب صولو ثلاثي للكمان والناي والفيولا.
ملده شويكاني