“الفتى المتيّم والمعلّم”.. حكايات مدينة.. خفاياها والتفاصيل
“كنا ستة؛ المعلم والتلاميذ والفيل الأبيض، وقد شيدنا كل شيء معاً؛ مساجدَ وجسوراً ومدارسَ وخاناتٍ وملاجئ للفقراء وقنوات للمياه، مرّ زمن طويل ظل فيه عقلي منشغلاً بتليين أشدّ الملامح حدّة، وإذابة الذكريات لتصبح ألماً سائلاً، وكان من الممكن استدراج الأشكال التي تطفو في رأسي كلما عدت إلى تلك الأيام للتخفيف من خطيئة نسيان وجوههم، لكنني على الرغم من ذلك أتذكر الوعود التي قطعناها، ولم نتمكن من الوفاء بها، بكل وعدٍ منها”.
هي كلمات جَهَان يستذكر بها تاريخ حياته؛ وتاريخ مدينة نقلته إليها على غفلة منه “إليف شافاك” مؤلفة قواعد العشق الأربعين، في روايتها “الفتى المتيم والمعلم” تأخذنا شافاك إلى داخل قصور السلاطين في اسطنبول نكتشف الحكايات المخفية وقصص المؤامرات والغدر، من خلال قصة الفتى “جهان” القادم من الهند، برفقة الفيل الأبيض هدية السلطان الثمينة والنادرة، رحلة الفتى هذه إلى اسطنبول ستنقل ابن الـ12 عاماً من عالم الفقر والقسوة التي دفعته للهرب برفقة الفيل الصغير، إلى آفاق واسعة من الترقي والمناصب الكبيرة في قصور السلطنة.
البداية
في حديقة القصر سنشهد على تاريخ عدد من سلاطين تلك المرحلة، وقصصهم الغريبة، بينما على هامش تلك الحياة تنشأ قصة حب بين جهان الذي بات مروِّضاً للفيل دون أن يدري ما تعني كلمة مروِّض فيلة وبين الأميرة الصغيرة “مهرماه” ابنة السلطان سليمان، وثالثهما الفيل الأبيض الذي أتى عربون صداقة مرجوة بين البلدين، ليصبح منذ اللحظة الأولى محط أنظار واهتمام الجميع بما فيهم السلطان والسلطانة والأميرة الصغيرة، التي كانت تعاني الوحدة جراء إهمال والدتها، المنشغلة بقصص مغامرات زوجها، لتستعيض الفتاة عنها بحب أغدقته على مربيتها.
مع توالي الأحداث في تلك الفترة؛ وازدهار أعمال البناء والعمران في البلاد، يبرز اسم المعماري الشهير سنان، الذي سرعان ما يرى في الفتى الهندي موهبة ملحوظة في الرسم المعماري تستحق الرعاية، فيطلب ضمه إلى فريق عمله الخاص الذي يقتصر على متدربين أربعة؛ يلحق بهم الفيل مساعداً في البناء بالإضافة إلى المعلم “سنان”.
شر لا بد منه
وكما في كل الحكايات القريبة من القص الشعبي، كان لا بد للعاشق والأميرة من عنصر شر ينكّد عليهما حالة الحب الموهومة، عناصر تعمل بالتوازي مع جريان الأحداث، من خلال المربية التي استعاضت بها الأميرة عن أمها، وداوود الصديق وزميل العمل في فريق المعلم سنان، إذ سنكتشف لاحقاً نحن و”جهان” متأخرين جداً اشتراك الاثنان معاً في كل عمل تخريبي حدث خلال أعمال البناء، ثأراً كبيراً وقديماً أخفاه داوود والمربية عاملين على الانتقام من السلطان الذي كان سبباً في قتل أبناء شعبه، بينما كان منشغلاً في حروبه مع الآخرين بغية توسيع رقعة سلطانه، مهملاً أهل بيته بما فيهم المربية التي تعترف لـ “جهان” في النهاية أنها لطالما رغبت فيه وأحبته ورعته أكثر من زوجته السلطانة ذاتها.
تجري الأحداث في الرواية غريبة لكنها مشوقة، متشابكة، تأسر القارئ فيقتفي أثر كل شخصية فيها، ويصل في كل مرة إلى نقطة ما ليعود إثرها خالي الوفاض حتى النهاية؛ نهاية الرواية، التي يكتشف فيها جهان الأمور وقد بلغ من العمر عتياً، تتساقط من حوله الحقائق، وقد هدّه العمر والغدر، من حب الأميرة الزائف التي لم ترى فيه سوى مغفّلها المحبب، إلى غدر الصديق داوود الذي كان شريكاً في هدم الكثير مما بناه المعلم وتلاميذه، والذي سيعمل لاحقاً وفي غفلة من جهان على تغيير وصية “سنان”، فيحوز المكانة التي أعدها لـ “جهان”، ويحتل منصبه كمعماري ملكي في السلطنة الكبيرة، إلى الأخرس “يوسف” الذي لم يكن صبياً، بل هو مفضلة المعلم الأثيرة والتي اضطرت للهرب من ماضيها المظلم، والراغبة في تعلم فنون العمارة في زمن كان هذا العمل فيها حكراً على الذكور فقط، ما اضطرها لادّعاء الخرس خشية أن يفضحها صوت الأنثى فيها.
سوف يلاحق جهان ويدفع إلى خيار وحيد، بعد أن يموت فيله الأبيض، سيرحل متخفياً على ظهر سفينة، وهو لا يعلم أن القدر قد أعد له من المجد ما يليق بعاشقٍ مثله، ولم يتوقعه بعد أن صار عجوزاً، إذ يخبره شخصاً ما من المسافرين بعد أن علم طبيعة عمله، بقصة الأمير شاه جهان الذي يبحث عن طريقة يخلّد بها زوجته الأثيرة “وهل أفضل من جهان تلميذ سنان المفضل” معماري كفؤ يترك بصمته الخاصة من خلال ضريح تاج محل الشهير، الذي أفرغ فيه عصارة معرفته وحبه لفن العمارة وأيضاً قصة حبه المستحيل للأميرة مهرماه، وكغيرها من الحكايات، وبرغم تجاوزه التسعين لا بد للبطل من زواج تتيحه له حظوة لدى الأمير شاه جهان، زوجة تحبه وتغدق عليه الحب والأطفال الذين سيكبرون ليستذكروا ما أنجزه الأب في حياته الطويلة.
نقد سلبي
“الفتى المتيم والمعلم” ليست فقط قصة عشق بين الفتى والأميرة لكنها قصة عشق من نوع آخر، حب التعلم وفن العمران فأتت تخليداً للمعلم سنان، قصة اقتربت من الحكاية الشعبية التي اعتمدت فيها الكاتبة على عنصر ضمنت من خلاله داعماً أساسياً للرواية، وهو المعماري الذي يعرفه القاصي والداني، الذي ربطته بعنصر لطالما أثار شهية وفضول القارئ، هو حرملك قصور السلاطين بما يكتنفها من غموض وتعتيم، بينما أتت بيوت الدعارة التي كانت رائجة ومرخصة حينها، إلى العلاقات الشاذة التي لا بد من وجودها في كل المجتمعات بكافة مستوياتها، القراصنة والسفراء الأجانب، جميعها؛ رشة بهارات إضافية، تزيد من النكهة والإقبال على الرواية.
رواية بنيت على فكرة بسيطة هي حكاية الحب البريء، الغدر، المؤامرات والسلطة بسحرها وغوايتها التي تدفع بالآباء للتفريط بالأبناء، والأمهات كي يتخلين عن فلذات أكبادهن كيداً من محظية مقرّبة من الزوج، أحداث أتت خفيفة غير معقدة واضحة لكنها تملك من الإثارة ما يشد القارئ يتتبع أثرها حتى النهاية، ليكتشف من خلالها حكاية مدينة اسطنبول بكل خفاياها ودهاليزها التي كانت سبباً كي تتلقى من النقد السلبي من مثقفيها برغم ود القراء العاديين، على اعتبار أنها تناولت المسكوت عنه في تاريخ المدينة خصوصاً أن الإنكليزية هي لغة الرواية الأصلية، ما دفع الكاتبة للقول في أحد الحوارات معها: “كلما ازدادت قراءة كتبي في العالم الغربي، ازداد الكره لي في وطني”.
بشرى الحكيم