“أزاهير أدبية”.. مقتطفات شعرية ونثرية نابضة بالمعاني الإنسانية
وعد د. محمود السيد محبيه وطلابه بتقديم كتاب يجمع باقة من أجمل ما قيل من أشعار العرب التي تتقد ذاكرته بحفظها ويرويها في متن حديثه في جلساته الثقافية ولقاءاته التلفزيونية، وقد وفى بوعده بإصدار كتابه الجديد الذي صدر حديثاً عن دار الشرق بعنوان “أزاهير عربية”، إذ شبه المؤلف الشعر بالأزاهير، وذهب إلى أبعد من ذلك حينما قال: “الشعر يعمق الحياة فيجعل الساعة من العمر ساعات” والمفاجأة أنه جمع بين دفتيه مقتطفات من الشعر والنثر لشعراء وفلاسفة من أقوام أخرى، فضمّ الكتاب مجموعة مختارات من الحكم العالمية والعربية، وأنصاف أبيات تردد كالأمثال، وأزاهير في بستان التصوف، وأزاهير وجدانية مستمدة من الشعر القديم والمعاصر. ليكون هذا الكتاب صلة وصل بين الآداب، ونغمات أوتار حزينة تدق أبواب الذكريات، وتجمع بين من باعدت بينهم المسافات.
ورغم أن الكتاب يتناول الشعر والأمثال والحكم إلا أن المقدمة التي كتبها د. السيد لم تخلُ من أهمية اللغة العربية ومكانتها بين الشعوب بناء على رأي المستشرقين، كما كتب المستشرق النمساوي جوستاف جرونيام:”تمتاز العربية بما ليس له قريب من اليسر في استعمال المجاز، وأن ما بها من كنايات ومجازات وإشعارات يرفعها كثيراً فوق كل لغة بشرية أخرى”، وهذا ليس بغريب على د. السيد الذي ألّف سلسلة من الكتب التي تُعنى بقضايا اللغة العربية.
والملفت في الكتاب سمة المقارنة التي أجراها المؤلف بين الحكم والأقوال العالمية مع ما يقابلها في أشعار العرب وأقوالهم على غرار الأدب المقارن، أما معايير انتقائه الأزاهير فتعود كما كتب في المقدمة إلى قناعته بقدرة المعنى على تخطي المحلية إلى الآفاق الأخرى الإنسانية عامةً، إضافة إلى مكانة الشاعر وملاءَمة المتخيّر لذوق القارئ من حيث العفوية والتلقائية، والقدرة على التعبير عن العواطف الإنسانية من جهة أخرى، إضافة إلى رهافة الحسّ والتعبير الصافي والإيجاز المذهل لدى الشاعر.
مقابلة بين الحكم
وأوضح د. السيد الفرق بين الأمثال والحكم، فالأمثال تعني الأقوال السائرة بين الناس والتي تتخذ منها العبرة والعظة، بينما الحكمة تقال عن الكلام الذي يقلّ لفظه ويجل معناه، من خلال ما جمعه في الفصل الأول “أزاهير عالمية وعربية في بستان الأمثال والحكم” من حكم عالمية وعربية في النثر والشعر، أورد بعضها على شكل مقابلة بإيراد الحكم العالمية أو أبيات الشعر مع ما يقابلها في أشعار وأقوال العرب، وفي منحى آخر أورد مجموعة وفق التبويب الذي خضع للتصنيف الإنساني والأخلاقي، في الباب الأول منه “حكم عالمية” على سبيل المثال قول جون ملتون”بشاشة الوجه أجود من سخاء الكف” يقابله أحد شعراء العرب بقوله:
وما اكتسب المحامد طالبوها
بمثل البشر والوجه الطليق
وفي موضع آخر ما قاله نيتشه “لصغار النفوس صغار الفضائل” ليقابله قول الشاعر بدوي الجبل: لصغار النفوس كانت صغيرات الأماني.
هل يخفى القمر؟
وبدأ بأقوال الرسول العربي محمد “ص” في الباب الثاني “حكم عربية” كقوله “خير الناس أنفعهم للناس” مستعرضاً أجمل ما قيل من حكم عن العقاد وجبران خليل جبران كقوله”من أطفأ شمعة غيره بقي في الظلام” وميخائيل نعيمة وأحمد شوقي وأدونيس وغيرهم، ومن حكم الشعراء العرب ماقاله المتنبي:
إذا رأيت نيوب الليث بارزة
فلا تظننّ أن الليث يبتسم
والجميل أن المؤلف أورد أنصاف أبيات الشعر التي انتشرت بين الناس وغدت تستخدم أمثالاً كشعر عمر بن أبي ربيعة:
قالت الصغرى وقد تيمتها قدعرفناه. (وهل يخفى القمر؟) المثل الشهير. كما أفرد مساحة أيضاً لتشبيهات على وزن أفعل اتخذت مواضع المثل مثل: أشجع من ليث، وأبعد من الثريا، وأكذب من مسيلمة.
التتيم
وفي الفصول المتتالية هيمن الشعر فأورد د.السيد مجموعة من أجمل ما قيل من أبيات التصوف للحلاج ورابعة العدوية والسهروردي وابن عربي ضمن فصل “أزاهير في بستان التصوف” كقول الحلاج:
والله ما طلعتْ شمس ولا غربت
إلا وحبّك مقرون بأنفاسي
وبيّن المؤلف معنى العشق الصوفي الذي يعد حالة من أحوال المحب الإلهي، تنتقل زيادة أو نقصاناً في مراتب متدرجة، وهي مراتب شبيهة بأحوال العشق البشري مع الفارق في القداسة، وتوقف عند كل درجة وفق معناها من العلاقة إلى الشغف إلى اللوعة إلى الصبابة إلى الشوق إلى النبل إلى الوصب إلى الهيام إلى الوله إلى التتيم ويصل فيه المحب إلى درجة أن يستعبده الحبّ.
أول خطوة الجنون
ومن أجمل فصول الكتاب وأقربها إلى الذات الفصل الثالث “أزاهير وجدانية في بستان الحبّ والعشق” لأنه تضمن مجموعة مألوفة من الشعر القديم والحديث، والأمر اللافت أن د. السيد استهل الفصل بشرح مفهوم الحب والعشق في نظر بعض الأدباء، مثل شرح سعدي الشيرازي في العشق الذي وصف الخطوة الأولى منه بالجنون ليتابع: وكم في الطريق إليه من جبال وبحار وأنهار وأخطار وإذا ما وصلت قُتلت لأنه يكافئ بالقتل عاشقيه. واستفاض المؤلف أكثر في مفهوم الحب فأورد أشعاراً قيلت في التعبير الخفي من إشارات وإيماءات ليتوقف عند لغة العيون التي تعبّر بنظراتها وبريقها عن مكنونات النفوس وتأجج العواطف كقول البحتري:
فتنطق منا أعين حين نلتقي
وتخرس منا ألسن وقلوب
شعر الدموع
وتتتالى فصول الأزاهير لما قيل في الحنين والتعلق بالوطن إلى الوصف..إلى السمات الشخصية والنفسية.. إلى التربية والتحلي بالمناقب من الهدي القرآني والشعر القديم والمعاصر.. إلى ما أطلق عليه أزاهير أدبية مسقية بالدمع ويعني بها الرثاء، ومن أرق ماورد في هذا الموضع ما دوّنه المؤلف عن الشاعر نزار قباني الذي بكى بلقيس:
تذبحني التفاصيل الصغيرة في علاقتنا
وتجلدني الدقائق والثواني
فلكل دبوس صغير قصة
ولكل عقد من عقودك قصتان.
أقوام أخرى
أما مفاجأة المؤلف فكانت مجموعة أقوال من الشعر والنثر لفلاسفة وشعراء من ألمانيا وفرنسا والصين كقول الشاعر الصيني”وين يى تو” في قصيدة عنوانها الماء الراكد:هذا مستنقع لاأمل فيه.
النسيم لايغضّن وجهه.. يستحق أن تلقوا فيه الحدائد القديمة والنحاس.
جاء الكتاب في عشرة فصول وثلاثمئة وخمسين صفحةً من القطع المتوسط، وانتهى بمجموعة طرائف أدبية.
ملده شويكاني