كنت واحداً منا وأكثر
أكسم طلاع
هذه المرة ذهب الفنان نذير إسماعيل ولن يعود إلينا، سنفتقد طلته ومشيته المتهادية ورائحة تبغه وحضوره البهي، الذي يمنح لمّة الأصدقاء الفنانين في الرواق العربي طابعاً مغايراً لجلسات الشجون الفنية والحياتية، حيث الذاكرة التي تمتد لأكثر من سبعين عاماً دمشقياً أتحفتها الأسماء والمقتنيات والقصص ومفردات الوعي الحادة التي لا يعرفها سواه، نذير المتواضع والمجّد والصادق حين حدثني عن طفولته التي قضاها في الميتم والمدرسة الأولى، وطريق العودة إلى البيت مروراً بشارع 29 أيار حيث يسكن أحد الفنانين الذين تظهر لوحاته لنذير من نافذة الحافلة المدرسية، ويصر نذير أن يتعرف على ما يراه خلف النافذة ويذهب إلى دروس الفن عند ذلك الجيل من الأساتذة في أربعينيات القرن الماضي، وينتسب إلى معهد الفنون ويعرض أعماله لاحقا في بيروت للسيدة مديرة الصالة التي طلبت منه بلطف العودة إلى دمشق والرسم هناك أكثر للتمكن من إقامة المعرض المرجو. كما حدثنا عن رأي الراحل فاتح المدرس وتقييمه لموضوعات نذير الفنية ليدعوه للرسم بتقشف الملون ودهشته بملامسة نذير للتعبيرية الخاصة به، والتي ينشدها كل فنان يبحث عن القيمة في الفن.
طيلة فترة الحرب كنا نلتقي في المرسم الذي يتسع لأكثر الأصدقاء، وهناك ولدت فكرة منتدانا التشكيلي “منتدى الأربعاء” كنتَ يا نذير من مؤسسيه ومن الذين نغتني بحضوره أنت والراحل غسان السباعي، تلك الصداقات الولاّدة والعامرة بالمودة تدفع جهداً نحو اللوحة والفكرة الواسعة والحلم، حتى حين يعلو الصوت كان رأي نذير هو الفيصل، يجمعنا بمودته وعزلته العميقة مع أشخاص يحاورهم في اللوحة وكم جعلهم مقلوبي الرأس في أعلى اللوحة.. أسألك لماذا؟ فتجيب: لأن عالمهم مقلوب ولابد من توازن هذا العالم، ربما السلام يحتاج ذلك لتضيف إلى الكون الصغير الذي ترسم، قيمة جديدة وعادلة.
حسبي أن نذير الذي أنتج الكثير من الفن واللوحات قد استطاع حشرنا نحن الأحياء في السؤال الذي تضيق به الحياة: وماذا أبعد مما نراه؟ وما هو الآن؟ وما الذي يذهب من وقت وهل يمكن استعادته واسترجاع ما يخسره الناس؟.
نذير إسماعيل صاحب الأسئلة في الفن والحياة.. صديقي الغني وداعاً.