ثقافة

ظـهـور وحـضـور!

… ومن الناس من يكون متحمّساً للظهور أديباً، ويسعى إلى ذلك بلهفة وتوق؛ وهذا من حقّه؛ وإلى أيّ جنس أدبيّ معروف انتمت كتاباته، أو من دونه؛ ويهرع إلى النشر أو الانتشار بأسرع ما يمكن، وبأيّ أسلوب وعلاقات؛ وهنا الإشكاليّة، وربّما الخطورة التي تتربّص به، قبل أن تشكّل لطخة على المشهد الثقافيّ، وليست هذه هيّنة أو بسيطة؛ ولا سيّما أنّ الواقع الثقافيّ، يكاد يغصّ بمثل هذا إلى حدّ الاختناق! ومن المألوف أن يتردّد الأديب الصاعد إلى أكثر من صاحب باع في الكتابة، مستنصحاً حييّاً؛ وهذا مهمّ، وقد بات قليلاً عديدُهم؛ أو يتجاوزهم المحمومُ مُلحّاً، إلى من له باع أطول لدى وسائل النشر، أو منابر الثقافة، أو له نفوذ ما على دوائرها. وحين يتيسّر لهذا الأديب الجديد أو ذاك، حضور قد يتكرّر، بهذا الشكل وذاك التواتر، أو سواهما، ويعرف أنّه صار معروفاً، تبدأ مراحل جديدة، لا بدّ من قراءتها والتوقّف عندها.
فمنهم من يكتفي بالمستوى الذي ظهر به، أو بالظهور في حدّ ذاته، ويبدأ بالتوسّع الأفقيّ، والبروز الإعلامي، متسقّطاً مواعيد المناسبات العارضة والحوليّة؛ مستنسخاً حاله، أو سواه؛ وليت من يستنسخه مميّز؛ مستسهلاً الخطو والتسلّق كيفما كان، والوصول بأيّ هيئة، أو التزلّج في دروب كالمَشاع، ومستويات كالمنحدرات؛ متفاخراً، ومتنقّلاً من مركز إلى مدرّج، ومن أمسية إلى مهرجان، ومن منبر إلى  آخر، ومن نافذة إعلاميّة إلى شاشة وقنوات. وقد لا يستمع إليك؛ أنت الحريص الرصين الجادّ، إذا ما صادف لك رأي، (وليس من يدلي برأيه جديراً دائماً). وقد لا يطلب رأيك، إلّا إذا ما كنت مقرّظاً  مُكبِراً مهلّلاً، معترفاً بالريادة والسيادة.
وقد يكون لدى بعض هؤلاء عدد محدود من النصوص، أو القَولات يردّدونها، وينغّمون ويوقّعون، يستصرخون ويتباكون ويستبكون، ندماء ونوّاحين، ومدّاحين، يلوّنون بالعاميّة المحكيّة، و”يُرهِبون عدوّ الله” بالخطابيّة والحماسة المفرطة، ويشتمون، ويهزِمون، وينتصرون دائماً!.
في المقابل أو المواجهة أو وراء الستار الشفّاف.. هناك من يدبّون على دروب الأدب، يحسّون بالمسؤوليّة أكثر فأكثر، فينكبّون على أدواتهم يشحذونها، وعلى عناصرهم يشذّبونها، وعلى إمكانيّاتهم يستزيدون من الطاقات، التي تؤهّلهم إلى المزيد من الحضور المُجدي واللائق والمطلوب..ومع كلّ ظهور، يكون القلق مرافقهم من قبلُ ومن بعدُ؛ ماذا أعدّوا؟! وماذا يقولون، وكيف يؤدّون؟! وما هو الجديد الذي يودّون أن يُظهروه؟! وكيف يجدّدون؟! وهل يليق أن يكرّروا ما قالوا قبل ذلك ولو قليلاً؟! وهل سيكون لهم صوتهم الخاص، وأسلوبهم المميّز؟! وكيف سينظر المتلقّون إلى نتاجهم؟! هل سيلحظون تطوّراً مأمولاً، أم سيندمون على أنّهم أضاعوا الوقت بالحضور غير المفيد؛ فاستمعوا إلى ما كان قد قيل، أو كُتب أو نُشر فضائيّاً والكترونيّاً وورقيّاً؟! وحين الإلقاء لا يهمّهم التصفيق، ولا العدد، ولا يستثيرون العواطف المجّانيّة، ويراقبون من يراقبهم بصمت، ويستمع بالجوارح، ويتأثّر بالملامح.. وبعد الظهور يستطلعون ردود الأفعال، ويقفون عند قائليه، ومدى صدقها، وما نسبة التشجيع الموارب فيها، والمبالغة والمواساة.. ولا سيّما إذا ماكان القائلون مسؤولين في الثقافة أو السياسة أو تبييض المواقف والسمعة.
ما من شكّ في أنّ ذلك يبقى طبيعيّاً في أيّ ظرف ومكان، وفي أيّ شريحة من المواطنين؛ والنسبة بين الصالح والطالح فيها– مع اختلاف المعايير والمعايرين-لا تختلف أو تتراوح بدرجات كبيرة. ومن الطبيعي أيضاً، أن تُستغلّ ظروف الأزمة في البلد، للتسويق والتعويم والتعميم، والاتّكاء حتّى على دموع الثكالى ودماء الشهداء. ومن الطبيعيّ والبدهيّ والواجب والمسؤوليّة، أن يشار إلى أنّ ذلك شكل من أشكال الفساد، ولعلّه الأقسى والأمرّ؛ لأنّه بعض الفساد الثقافيّ! وفي ظرف يتطلّب حلّا ثقافيّاً دون أدنى شكّ، ومن دون أيّ تأخير أو تسويف أو تسويغ أو تعطيل.

غسّان كامل ونّوس