ثقافة

“تفل قهوة”.. غياب الأدبيات البصرية والفكرية

حاول العرض المسرحي “تفل قهوة” تناول ثلاث أزمات عميقة هي الحرب والمرأة والمجتمع.. ثلاثة عناوين كبيرة انتهى هذا العمل المونودرامي إلى الإشارة إليها عشوائيا بالطريقة اللبنانية القائمة على مبدأ البطة المطاطية في المحيط.
لا تحدد المسرحية بزمن معين ولا بمكان واضح.. إلا أن اللهجة والأسلوب المعروف للتذمر يربطنا على أرصفة شارع الحمرا اللبناني، ويعيدنا إلى الحرب الأهلية اللبنانية رغم كل محاولاتنا لإسقاط الموضوع على واقعنا وحياتنا وحتى على حربنا. الساعات المعلّقة التي أعلنت كل منها حريتها في اختيار الوقت الذي تريد الوقوف عليه تعلن لنا أنها حرة, ربما أكثر من الشخصية الوحيدة في المسرحية، والتي تنادي وتجهر بحريتها في غرفة في منتصف اللاشيء, بنافذتين إحداهما يمد الجار الأرمني منها طقوسه المسائية بالقدود الحلبية, والأخرى يتلصص عبرها الجار المكبوت على جارته المثيرة وتتسلل أصوات الأسرة من خلاله، فنجده مغلقا بمكنسة حمراء يتيمة. السرير المرهق المغطى بالبياض الذي نكتشف لاحقا  بأنه فساتين عرس، والطاولة المزدحمة بالشموع, الكرسيين والمذياع.. كلها توحي بنمطية مملة ودلالية متدنية عاجزة عن أن تؤدي دوراً لائقاً في المونودراما.
تبدأ المسرحية  باستيقاظ امرأة من غفوتها على الأرض, تستمع إلى الموسيقا عبر مذياعها فتوحي لنا بالهدوء والسلام، وما أن يبدأ المذياع بالانتقال إلى نشرة الأخبار حتى تدخل المرأة في حالة هستيريا مفاجئة, فتحطم المذياع وتلقي خطبة عصماء عن الحرب والموسيقا والكذب، لتتركنا في حالة من الذهول بسبب هذا التغير المزاجي المفاجئ محاولين إرجاعه إلى أسباب درامية ربما تتوضح لاحقا خلال المسرحية, وهذا ما لا يحدث أبداً، مما يلقينا في متاهة أخرى هي عمر الشخصية, فقوام الممثلة الممشوق وطابعها المثير يخلق تناقضاً بين شبابها وحوارها الداخلي التائه، وبين حجم الغضب المتراكم لما يشبه قروناً، مما يخلق شخصية ناقصة المعالم تجعل من الواضح لأي أنثى من الجمهور غربة الكاتب عن الأنوثة، وجهله لعالم الأنثى الداخلي الذي كان من الأحرى أن تفصح عنه في مونولوج مشابه.
تنطلق الشخصية في حربها على الوقت والساعة مهاجمة الحاضر والماضي على حد سواء, تكسر الساعة وتصرخ: “أنا حرة”, تهاجم مجتمعها وكذبه وأمراضه معترفة بأنها جزء منه أيضاً ومتورطة بكل بشاعته، دون أن تبرئ نفسها أو تنعزل عنه، لتضع إصبعاً في عين الواقع وتسأل “لماذا” لا تطرح حلولا ولا تجيب عن أي سؤال، لكنها تبرئ الله من مسؤولية ما تفعله اليد البشرية فتشعل الشموع وتتقيأ إيمانها على المسرح وتعود  بالطريقة المستغانمية مسترجعة تجاربها العاطفية، موزعة فساتين العرس على المسرح كإشارة للحب الضائع والمحاولات الفاشلة بتعليقها بالساعات السابحة في فضاء الغرفة، والرقص معها على ألحان القدود الحلبية التي بدا استخدامها واضحاً كمحاولة فاشلة لتقريب العرض إلى مشاهديه.
تتبع هذه الوصلة الراقصة بموجة سخط وتذمر أخرى، ثم بتهريج مبتذل ويعقبها مونولوج بين الشخصية وذاتها الداخلية، حيث يظهر بوضوح نظرة عدم الرضا الذي تحمله لذاتها ومحاولتها الانغماس في الألم واللوم حيناً والهروب حيناً آخر، تجسد هذا الحوار بين الممثلة والصوت والإضاءة خلف الأعمدة القماشية.. الهرب، الغضب، الحنق والغضب مرة أخرى. وتستمر هذه الدورة إلى ما لانهاية، لكن المسرحية تنتهي بالتفاف كل تلك المشاكل والبشاعة التي تسكن الواقع وتقف في وجه أحلامنا على عنق الشخصية لتقتلها وتنهي مسرحية التيه، لتظهر لنا فخر الممثلة بأدائها منقطع النظير بالتكرارية ووحدة اللون والعصبية التي تميز عجائز جبل الباروك. وهكذا انطفأت إضاءة المسرحية في العرض الأخير لتنهي سجلاً من الأخطاء الفادحة في تاريخ الإضاءة المسرحية، مزقت كل عقد ممكن أن يعقده المتلقي داخله للقبول المسبق بالدخول في لعبة المونودراما, التي هي التعبير الأمثل عن مسرح النجم المتمكن من أدواته، وليس الممثل العصبي ضيق المساحة الصوتية.
قد تشكل “تفل قهوة” مادة جيدة للتلفزيون أو السينما, لكنها تفتقر لأدبيات ولغة المسرح البصرية والفكرية التي يفترض أن تكون أذكى وأكثر احتراما للعقل وللذائقة الفنية. ربما كانت تحتاج للمزيد “والكثير” من المعالجة الفنية فيما يتعلق بالنص المكتوب، وانتباه أكبر فيما يخص الإضاءة والسينوغرافيا، لكنه يبقى عرضاً يعبر عن نفسه وعن مؤلفه وعن ثقافة مجتمعه.
سلمى طلاع