عن قصاب باشي ومنيف.. الفن فعل أخلاقي يربط المتعة بالحقيقة
ونحن في مرايا الفقد نتأمل حالنا ونستعيد بذات الوقت صوراً من «ألبوم» الحياة، تستوقفنا الصداقات الإبداعية وهي مديدة في الذاكرة الثقافية العربية، ومنها على سبيل المثال الصداقة التي جمعت الشاعران الكبيران الراحلان سميح القاسم ومحمود درويش، في الكتاب المشترك الرسائل وغيرها الكثير، مما وقر في تلك الذاكرة شرقاً وغرباً، وبخصوصيات وسياقات مختلفة، لكن الصداقة التي جمعت بين الفنان التشكيلي السوري مروان قصاب باشي، والروائي العربي الراحل عبد الرحمن منيف، لها أكثر من خصوصية سوف تحيلنا إلى علاقة الكلمة باللون من حيث هي محكيها ومعادلها الجمالي إن جاز التعبير، فماذا يعني أن يقول منيف أن الفن لدى مروان قصاب باشي، هو فعل أخلاقي يربط المتعة بالحقيقة، والأدل في هذا القول الذي يذهب به منيف روائياً إلى استكناه علاقات الألوان والحروف، وهي التي وجدت صداها في الكثير من أغلفة رواياته وأعماله؟.
هي رحلة الفن والحياة، وهي أكثر من امتداح صداقة بين رجلين، أو لنقل أنهما أيقونتا فكر وفن، ظلت أزمنتهما تشي بالقبض على تلك العلامة الفارقة في رحلة الكتابة، أو رحلة الفن، إذ في انفتاح ذلك المتخيل السردي اللوني، سوف نقف على حالات اختمار الأديب ومكابدة الفنان، بل في انكشاف تلك الفضاءات الملونة بالشغف، والمضرجة بحقيقة الفن ووظيفته، من أنه ذلك الفن العابر للغة والأزمنة قصد الخلود والإقامة في الأبدية البيضاء.
ولعل الكتاب المشترك الذي أُنجز في هذا السياق وهو بعنوان «عبد الرحمن ومروان قصاب باشي» هو دالتنا لنرى تلك الأبعاد التعبيرية/ الجمالية، التي انطوت عليها رحلتهما في الزمان والمكان، فصاحب التجليات –مروان قصاب باشي- كان الأقرب إلى لغة أخرى مختلفة أنجزها رسماً وإبداعاً، وهذه اللغة التي عبرت عنها لوحاته الباذخة، كان لها معادلها في أكثر ما كتب منيف، لينجزا معاً هوية إبداعية مختلفة تُحيلنا إلى تلك الفرادات التي برعا بها، وعلى مستويين يكادا يتماهيان، الرواية والتشكيل، واندغام الحدوس في مركب ملهم أصبحت له خصوصية تعبيرية بكثافة تأويلها، واشتقاق لحظتها وهي من تشي بتجاوزها الراهن والعادي لتبلغ آفاقاً بعيدة، أي بمعنى أنهما كانا يحرران وظيفة الفن في المتعة والحقيقة، ويدعان لدواخلهما الشفيفة أن تسرد وأن تذهب بنا إلى خطابات بصرية ولغوية متماسكة، من أجل انجاز لحظة جمالية فارقة تعيد تأويل التشكيل والرواية من زاوية معرفية وثقافية بآن معاً.
صداقة بين قطبين، لكنها كانت أكثر بلاغة في مصداقيتها على مستوى صدقها الفني وشرطها التاريخي، الذي جعلنا نتأمل غير وظيفة للفن، أي إنجاز رؤيا مشتركة لمبدعين في أزمنتهما صاغا أكثر من ميثاق للجمال، بل أنجزا ما يمكن تسميته بالهوية المشتركة، هوية الفن في أسئلته الأخرى العابرة أيضاً، وهوية الإنسان في تعدده وخصوبة فكره، لتنضج في مرايا الفنان الراحل مروان قصاب باشي، فلسفة لونية مشغولة بهواجس الفن الأعلى والأنبل في تكويناته ووشي رسومه من الوجوه إلى الأمكنة، إلى الحالات التي تحتدم فيها ريشة الفنان بمصائر وأقدار أكثر منها وجوهاً تعبر أمام المرايا.
وإذا كان ثمة كتاب لاحق بعنوان «أدب الصداقة» ليضيف لرحلة الفن والحياة غير بعد، في سياق الرحلات السيكولوجية إلى الذات والآخر والعالم، فهو في السياق ذاته أدباً كاشفاً لفرادة اللحظات الإبداعية وتجلياتها القصوى التي تعود لتثري زمن الصداقة، بامتياز تسميتها الصداقات الأدبية وعلاقاتها الاستثنائية، لا سيما في التواصل بين الإبداع وصولاً إلى فهم مشترك بخصوص تأويل العالم والتقاط معناه الكبير.
أحمد علي هلال