ثقافة

“مان بوكر” بول بيتي.. “جائزة بيضاء” للكوميديا السوداء

ليس من السهولة بمكان؛ أن تكون شخصاً أسود البشرة وتعيش في مدينة مثل “لوس أنجلس” هكذا هو الأمر؛  بالنسبة لبول بيتي الفائز بجائزة “مان بوكر” البريطانية لهذا العام، والحاصل على ماجستير في الكتابة الإبداعية وعلم النفس من جامعة بروكلين.
ولم يكن من السهل أيضاً على صاحب رواية “خيانة” تجسيد أفكارها على الورق؛ إذ كان اعترف قبل إعلان نتيجة الجائزة؛ بالصعوبة الكبيرة التي واجهته في كتابتها، بينما يسعى من خلالها إلى تقديم وصف حقيقي لمعنى أن تكون ذلك الشخص، وتسعى جاهداً لتخفيف تلك اللعنة.
تدور أحداث الرواية في “لوس أنجلس” المدينة التي شهدت ولادة كاتب الرواية الذي يعتبر أول أمريكي يحظى بها، وتحكي عن شاب أسود البشرة من أصول أفريقية؛ ولد في ضاحية تدعى “ديكنز” تعتمد حياة أهلها على الزراعة وتربية الماشية، ويعمل والده كطبيب نفسي، يجري أبحاثه الخاصة حول مفهوم العنصرية واقعاً على الأرض، من خلال متابعة حياة الابن، بغية تحصينه منذ الصغر ضد التمييز العنصري، يقوم في أحد الأيام بتوجيه التأنيب والتوبيخ للابن وسط جمهرة كبيرة من الأشخاص المتواجدين، في محاولة منه لقياس درجة التعاطف التي سيبديها هؤلاء تجاه الحالة، الجمهور سوف ينخرط في المشاجرة التي تنشب بين الوالد وابنه إثر التوبيخ العلني، سيقتل الوالد فيما بعد من قبل رجال الشرطة، ليقع الشاب في حالة من التشتت والصدمة؛ إذ يقف محدثاً نفسه بلسان الراوي: “اعتقدت أن موته كان حيلة، خطة متقنة منه كي يلقنني درساً عن مصيبة العرق الأسود، ويلهمني أن أنجح” إذ كيف سيكون الأمر بالنسبة إلى شاب غبي مثله إن كان هذا الموت هو ما يحدث لشخص ذكي كوالده، سيجد الشاب نفسه وحيداً يعمل في زراعة البطيخ ويتعاطى الماريجوانا، يسيطر على البلدة بعد رحيل الأب؛ يسير على خطاه؛ ويتابع تجاربه في اختبارات العبودية والعنصرية، لتبدأ تظهر في أنحاء البلدة لافتات الزمن الماضي “للبيض فقط” على باصاتها؛ المشفى والمدرسة، يمارس اضطهاده الفعلي على “هومني جيلبير” الذي كان يعمل ممثلاً في شبابه، فيجعله عبداً له، ويبدأ سلوكه المشوش يظهر في كل تصرفاته، ليجد نفسه في النهاية يقف أمام المحاكم بتهمة محاولته إعادة ثقافة التمييز العنصري إلى البلدة.
الرواية كانت أثارت الجدل قبل فوزها الحالي، فهي تأتي بشكل واضح كتشريح فعلي لحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، وإشارة ليس فقط إلى تمييز عنصري ملحوظ ولو بشكل موارب وغير مباشر، إنما هي تحذير وتوبيخ لأولئك الذين لا يسعون لمساعدة أنفسهم على الأقل، وهو ما ظهر من خلال حوارات أتت على لسان الراوي الذي هو بالتأكيد لسان حال الكاتب.
“تحاور الأب مع ابنه ذات حين حول الأمر، الابن الذي يرى أن المشكلة ليست كامنة في وجود فعلي للتمييز في البلاد بل تكمن بشكل جلي في “هؤلاء الأمريكيين المتحدرين من أصول إفريقية سوداء”؛ يرى أنهم لا يريدون تحمل المسؤولية تجاه أنفسهم” ويثبت له الأمر من خلال مجموعة من النساء اللاهيات يعشن في بلدة بائسة من بلدات ولاية المسيسيبي، وحيث يُظهرن ضياعاً كلياً؛ ضياع هوية وعرق، هذا الأمر بالتحديد هو المحور الأساسي الذي بنيت عليه الرواية ونسج “بيتي” من خلالها خيوط الحكاية، بأسلوب تهكمي وسخرية سوداء، ورغم روح السخرية هذه؛ إلا أن صاحبها يرى أنه من غير العدل وصف العمل بالكوميدي، لأنها تشكل صورة واضحة للكوميديا السوداء “والأمر مختلف بالطبع”.
ليأتي فوزها الآن بما تحمل من رمزية، وشخصية كاتبها “بخلفيته السوداء” وكأنها نوع من الرد أو “التغطية لافرق أحياناً” على مرحلة شهدت فيها ولايات أمريكية كثيرة، نوعاً من النكوص إلى الخلف؛ وحوادث عنصرية واضحة المعالم ، من جرائم قتل بحق السود؛ سواء كان مرتكبيها أفراداً عاديين أو رجال شرطة بيض، بينما يصعد من ناحية أخرى نجم رئيس أمريكي محتمل بنسبة كبيرة، يحمل كل هذه التوجهات العنصرية التي لا يحاول مداراتها أو تجميلها على الأقل.
المفارقة المضحكة في الفوز أن الرواية نفسها كانت رفضت من قبل 18 ناشراً ليس لأنهم ضد الأفكار الواردة فيها، بل لأن نشرها أمر غير مضمون العواقب، لتصدر عبر دار نشر صغيرة هي ذاتها ناشرة رواية “تاريخ موجز عن سبع جرائم قتل” لمارلون جيمس الفائزة بنفس الجائزة العام الفائت.
بول بيتي المولود في لوس أنجلس 1962 والذي لا يخفي تأثره البالغ بالكاتب الإيطالي “إيتالو كالفينو” معجب أيضاً بالأدب الروسي والياباني، كان فاز بجائزة نقاد الكتاب الوطني في العام 2015، يدير ورشة للإبداع القصصي في جامعة كولومبيا، وكان أصدر من قبل ثلاث روايات  هي “سلامبرلاند”، “قسوة” و”الصبي شافل الأبيض” التي تعد باكورة إنتاجه الأدبي والتي صدرت في العام 1996.
بشرى الحكيم