اللـغـة والـحـريـة
سُئِل عميد الأدب العربي طه حسين ذات مرّة في لقاءٍ على إحدى الإذاعات الفرنسية عن عدد اللغات الّتي يتحدّثها. فأجاب أنّه يُجيد الفرنسية والإنجليزية وبعض العربية. قد يرى البعض في هذا مديحاً للّغة العربية بسبب غِناها وتنوّع مفرداتها وعمق بحرها إلى درجة أنّ عميد أدبها ذاته لا يُجيد إلّا بعضاً منها. غير أنّ الأمر يُخفي ضيقاً وذمّاً لمتحدّثي العربية المُفترضين, فكيف سيُجيد أيُّ شخصٍ لغةً غير مستخدمة حوله؟! أحد أهمّ أسباب عدم إجادتنا للعربية هو عدم ممارستها حديثاً وكتابةً في السنوات الأخيرة، حيث استسهل الكثيرون الكتابة بالعامّية خوفاً من الخطأ ربّما, أو رغبةً في التحرّر من القواعد. خصوصاً حين انتشرت الكتابة بين الشباب مع انتشار الشبكات الاجتماعية, وهنا أستعجب كيف يتحدّث ويكتب هؤلاء بالإنجليزية -إذا عرفوا “بعضها”- مُلتزمين بكلّ قاعدة ومُحاولين ألّا يقعوا في الخطأ! نعم, قد تكون العربية صعبةً مليئةً بالمفردات والقواعد ولكن هذا ما يجعلها أكثر مرونة وكأنّها ماءٌ يتشكّل حسب إناء الأفكار والمشاعر الّذي يوضع فيه. فتُعبّر العربية تماماً عمّا يُريده مُتحدّثها أو كاتبها دون تحريف أو حذف وكأنّها مُترجمٌ أمينٌ يُجيد عمله. اللغة هي من أهمّ أعمدة ومقوّمات أيّة أمّة, فإذا لم ترتكز الأمّة على عمود اللغة تكون معرّضة للسقوط في أيّة لحظة. لذا علينا أن نخاف حين تُؤسر اللغة في الكُتب القديمة, وحين لا يتحدّثها إلّا بعض المُختصّين, وحين تُترجم أفكار الناس على الورق “بلغاتٍ” أخرى عجيبة لا قواعد لها نسمّيها العامّية. وإذا اعتبرنا أنّ اللغةَ هنا قشرة بيضة وأنّ الأفكار هي محتوياتها من زُلالٍ ومُحٍّ علينا أن نتساءل هل ستبقى هذه المحتويات صالحة للاستخدام حين تكون القشرة معطوبة؟ يقول عبد الرحمن مُنيف: لا يمكن أن يتحرّر هذا الشعب قبل أن تتحرّر لغته, أن تغادر القواميس إلى الحياة, وأن تتخلّى عن الزخرفة والشَعر المستعار والأسنان الصناعية, وأن تصبح لغة الناس.
ولاء النابلسي