ثقافة

صراع الأجيال.. أقدم أشكال الصراع

عبد الرزاق الياسين
كثيراً مانسمع هذه العبارة “صراع الأجيال”، فهل هي ظاهرة طبيعية ومسألة قائمة على هامش الحياة الاجتماعية في جميع المجتمعات؟ أم أنه شكلٌ خطير من أشكال الصراع؟.
لاريب في أن أي صراع داخل مجتمع ما، يؤدي إلى هدر طاقات ذلك المجتمع، وبما أن صراع الأجيال هو أقدم أشكال الصراع وأكثرها قابلية للديمومة، لابدَّ من الوقوف على أبعاده في الماضي والحاضر، فهذا المصطلح شعبي يستخدم في وصف الاختلاف بين الناس من جيل الشباب وكبار السن وخاصة بين الأطفال وجيل آبائهم. وشاع لأول مرة في البلدان الغربية خلال الستينات من القرن الماضي ووصف الفروق الثقافية بين الشباب وآبائهم في كافة المجالات الفكرية والحياتية.  وعلى الرغم من حداثة المصطلح نسبياً إلا أن هذه المشكلة تكاد تكون قديمة قدم الحياة البشرية.. وبما أن الآداب مرآة الواقع ذات الصورة الأكبر والأعمق، فلابد من النظر إلى أدبيات الشعوب وأساطيرها كي نستطيع فهم وعيها الجمعي لذلك الصراع وتبدياته في واقعها المُعاش، ولعل أقدم تجسيد لهذا المفهوم كان في قصائد التكوين الخاصة بتلك الشعوب، وتعد قصيدة التكوين البابلية على سبيل المثال من أقدم النصوص الأسطورية المجسدة له.
قام الإله (آن) بالزواج من الآلهة (كي) فأنجبا بكرهما الإله (أنليل) الذي كان بينهما في مساحة ضيقة لا تسمح له بالحركة، وحين سعى لأخذ حيز وجوده ومداه المريح بدأ الصراع الأول، ثم بدأت أسطورة التكوين تخبرنا عن انبثاق جيل جديد من الآلهة النشطة، وبدأ الجيل القديم المعتاد على السكون يشعر بالضجر والسخط من الضجيج الذي ظهر إلى حيز الوجود مع ظهور الجيل الجديد، حيث فقدوا الراحة ولم يعد بمقدورهم أن يسكنوا للنوم.. فقرروا القضاء على الجيل الجديد ليقضوا على الأنشطة التي ظهرت معهم. إلا أن المؤامرة تصل إلى مسامع الجيل الجديد وخصيصاً إلى الإله (ايا)، إله الحكمة الذي يكشف المخطط فيقع المتآمرون في شر مؤامراتهم.
وقد كانت الشعوب القديمة تمجد الإله المنتصر من الجيل الجديد وتقدس انتصاره، فهو في نظرهم انتصار ضروري ليتم الكون حياته ودورته.. وقد عبّروا عن صراع الأجيال بشكل واعٍ لدرجة اعتبارهِ صراع الوجود مع العدم والنور مع العماء والحركة مع السكون والحياة مع الموت، باعتبار أن الوجود صيرورة وتحول والعدم ثبات وجمود.
وبالانتقال إلى عصرنا الحالي نجد أن الصراع أخذ شكل الصراع الثقافي والفكري لكنه قريب من المفهوم السابق، ففكر الآباء يريد إلغاء فكر الأبناء والعكس صحيح، ولعل كل ذات مثقفة واعية تريد أن يحل حوار الأجيال مكان صراعها، لأن ذلك الصراع فيه هدر لطاقات المجتمعات قد يؤخرها عن الريادة والتطور.
ولعل الخطورة الاجتماعية لصراع الأجيال تكمن عندما يحاول جيل الآباء أن يستنسخ نفسه في الأبناء، أو عندما يرى الأبناء فيما أوجده الآباء نماذج عن الرجعية والتخلف. كما تكمن خطورة هذا الصراع في كونه قادراً على التسبب بمشاكل نفسية واجتماعية وأخلاقية لكلا الجيلين. ولعل هذا العصر بمتغيراته ذات الوتيرة المتسارعة يجعلنا نشهد جوانب موضوعية لهذا الصراع، فكيف على سبيل المثال لرجل أمضى طفولته وشبابه يجلب الماء من الينبوع عبر جرة ماء ويكدح في أعمالٍ مجهدة أن لا ينظر إلى ابنه على أنه خامل وكسول حين يراه قليل الحركة والنشاط وسط فيضان المنظومات التكنولوجية، والأجهزة التي تدخر على الإنسان جهد ( ضغط زر) فتمنحه رفاهية التعامل معها باللمس. ولا عجب في هذا العصر من عدم امتلاكنا في مجتمعاتنا العربية القدرة الكافية لخفض وتيرة صراع الأجيال رغم تطور الوعي، وذلك بسبب جملة المتغيرات في أنماط ووسائل ممارسة الحياة الاجتماعية بمعظم أبعادها.. وأرى أننا لا ينبغي أن نوقع اللوم على عاتق جيل دون الآخر في تنامي الصراع بينهم، كما ينبغي على كل جيل أن يتحدث إلى الآخر وليس عن الآخر ويسعى إلى فهمه أولاً، وليس إلى تغييره أو تحديده.