دون كيشوتنا
سلوى عبّاس
قبل أربعمئة عام من الآن قدم لنا الكاتب الأسباني سرفانتس شخصية دون كيشوت التي ولدت في مخيلته السردية كرد ساخر على زمنه بكل ما يحمله من انكسارات وهزائم وانهيارات.
وقد استمدت هذه الشخصية خلودها من تزامنها مع كل عصر، فإذا استعرضنا مراحل التاريخ منذ وجود الإنسان حتى الآن نرى أن شخصية دون كيشوت موجودة بصور مختلفة، فهي تقوم في محورها على فكرة الصراع ما بين الخير والشر، وأول مايتبدى لنا ذلك الصراع مابين هابيل الذي مثل بشكل أو بآخر الشخصية الدونكيشوتية، وبين أخيه قابيل الذي كان مثالاً للشر والدمار، وكان انتصاره على هابيل مثالاً لاستمرار هذه الشخصية في التوالد ونشدان الحرية في كل عصر، تلك الحرية التي خلق الإنسان متوجا بها من خالقه، لكن مافطر عليه الإنسان من شرور وجشع جعل هذه الحرية محور نضال الإنسان في كل الأزمان.
ومن خلال تمثل الأدب لهذه الشخصية في نتاجاته نرى أن سرفانتس لم يكن الوحيد الذي قدم دون كيشوت وجهاً آخر لهزيمته وهزيمة عصره، بل هناك أدباء كثر مثل شكسبير وبلزاك ودوستوفسكي، وهناك أيضا محمد الماغوط وعلي الجندي وأمل دنقل وغيرهم، وكل منهم قدم دونكيشوته كما يراه ويفهمه ويرغب أن يكون.
وفي عودة إلى سرفانتس ودونكيشوته نتساءل هل ابتكر هذه الشخصية ليسخر منها ومن هزائمها، أم ليسخر من نفسه؟ فكما يبدو لنا هناك علاقة جدلية دائمة مابين الكاتب وبطله يحمّله قيمه وأفكاره، وبالتالي فإنه يقدّم صورة دونكيشوتية لذاته.
وإذا انطلقنا من مقولة الأديب الراحل ممدوح عدوان أن داخل كل واحد منا “دونكيشوت” الذي هو صورة الإنسان الغاضب من حالة التردي الأخلاقي والثقافي والاجتماعي في عصره، توجد شخصية كهذه تطلع الناس على حقيقة ما يعيشون من معطيات عصرهم، فدون كيشوت بطل مؤمن بعدالة قضيته وحتمية انتصارها، إن لم يكن في زمنه، فهو واثق أن هناك من سيأتي بعده ليكمل رسالته. وقياساً لما نعيشه في عصرنا هذا من حالة قريبة في مواصفاتها من حالة الخيبة التي عاشها دون كيشوت في زمنه فإننا نفتقد لـ “دونكيشوت” يعلن ثورته على هزائمنا وأحلامنا المجهضة، وقيمنا ومثلنا التي فقدت ملامحها وهويتها، فهل لنا أن يستنهض كل منا دونكيشوته، ونشعل شمعة أمل تضيء ضبابية أرواحنا، ونخلق “دونكيشوت” بملامح ومعطيات تنقذنا ليس من هزائم عصرنا، بل تنقذنا من يأسنا وخيباتنا التي عتمت على كل إشراقة في حياتنا.