ثقافة

حكايات سوريّة .. أسرار النساء

جاءتني مرة رسالة على الجوال، تطلب إلي ومقابل عدد قليل من الوحدات، أن اشترك لأعرف أسرار “الأنثى” كما جاء في النص: هل تريد أن تعرف ماهي أسرار الأنثى؟ اطلب الرقم كذا وأدخل الكود كذا، تصلك رسائل أينما كنت، تخبرك عن أسرارها” وزيلت الرسالة بسر من أسرارها بمثابة “كادو” تحريضي يقول: السيدات يحرصن على أن ينلن أعجاب الجميع بأناقتهن، لذا إذا أردت الولوج إلى مشاعر امرأة بسرعة، فأخبرها كم هي أنيقة وساحرة ولا تنسى أن تلفت انتباهها إلى أنك أحببت عطرها” كان علي حينها أن اكتم غيظي الشديد من هذه الرؤية السطحية لحال “الأنثى” كما سمتها الرسالة خصوصا في سورية وفي هذا الوقت، رغم أنها–أي مفردة أنثى- لفظ تجنيسي لم يعد يستخدم للدلالة على النساء، فهكذا اسمهن “نساء” ولا أنثى!. ترى أين يحيا من يخط رسائل كهذه في هذا البرد!؟ ولكن مهلا، هل هكذا هي أسرار النساء السوريات الآن! ربما هذا حال البعض منهن، أما معظمهن، فليست هذه أسرارهن ولا هذا عالمهن، إنهن الآن في مكان آخر تماما، الأناقة وهمومها هي آخر ما يفكرن به.
وإليك أيها المترجم الحرفي لنص ربما حدث أن قرأته وأنت تجلس خلف مكتبك منعما بالـ”كونديشن” في كتاب من كتب “أليف شافاق” أو “أحلام مستغانمي” – الأسود يليق بك مثلا- بأحسن الأحوال، بعض من أسرار “نساء” سوريات في هذا الزمن الذي يبدو أنك تحيا خارجه!.
– لم يكن تبقى أكثر من ثلاثة درجات حتى تنهي السيدة الستينية مشوارها اليومي، المشوار الذي تقطع فيه قرابة الـ 3 كيلومترات بين بيتها والفرن، وها هي تجتاز الدرجات الثلاث.. واحدة.. اثنتين، تقف قليلا وتمسك بمنديلها المقصب الرث تمسح به عرق جبهتها الغزير، تعيد ترتيب ربطات الخبز الـ 5 فوق رأسها قبل إن تعاود الصعود. ثلاثة: يا رب” ثم صوت خطى بطيئة ومتعبة وجادة تغيب في الزقاق، لم يعد يظهر منها شيء سوى الخيال الذي ربما تساءل إن كان هذا البؤس الساكن قسمات تلك السيدة، قد مر بذاكرته ذات مرة، أم أنه لم يحدث أن تعرض لهذه القسوة سابقا!.
لو كان لهذه السيدة رجال في البيت، لا ريب أنها لم تكن لتتكبد هذه المشقة اليومية التي تهدر دمها كسيدة عجوز تبدو أكبر من عمرها بقرن ربما، ولا حاجة للسؤال عن الحال، لتعرفه، فهذا الحال البائس، بات رؤية يومية وبكثرة للكثير من السيدات السوريات بمختلف أعمارهن، نساء أكلت الحرب رجالهن وأولادهن وأخوتهن، وأبقت لهن على الأسى والحزن “فحل المشاعر” يتكئن بآهاتهن بين أحضانه، يتمرغن في رائحته وبكل قهر العالم يطلقن أنينا ترتج لأجله جدران القلوب يقول بصوت واحد، صوت نحيل وحاد كما الصراط: الله يا الله يا محراثنا القديم. وهي عبارة عن صلاة سورية قديمة، رددتها الأساطير والحكايات، عن حال نساء أكل الحزن أكبادهن وأدماهن الفراق كما لم يفعل قبل.
– روت لنا جارتنا العائدة لتوها من قريتها، أنها دعيت إلى عرس تمنت لو أن الأرض انشقت وبلعتها ولم تلب الدعوة “وأرى ما رأيت” قالت، المشهد الذي نقلته الجارة المصعوقة ، وبصوتها المرتجف من الحمى أكثر منه من البرد، لا يمكن وصفه، وربما يكون الحديث عنه قاسيا وجدا لدرجة أنه لا يوصف، حتى أننا ومن صورة فوتوغرافية واحدة للمكان رأيناها على جوال جارتنا، عرفنا ما الذي جرى، قبل أن تروي لنا هذه السيدة ما حدث، فأغلب الشباب الذين شاهدتهم في الحفل كانوا يتكئون على عكاز، بعد أن فقدوا ساقا وحتى اثنتين، وفي صورة واحدة اجتمع ما يقارب الخمسين شابا من أهل العروسين وأصدقائهما ، ينتظرون صوت “فلاش” الكاميرة وصوت مغلاقها، ليصبحوا شاهدا لا يندمل للآن وللتاريخ، على ضراوة الحرب التي يخوضها السوريون ضد الموت وأحيانا للأسف ضد الحياة، لكل رجل من هؤلاء الرجال أم وأخت وزوجة وابنة، عانت ما عانت وتعاني ما تعاني مع الحال الذي صار إليه رجلها، ومرة أخرى إنهن النساء، يهمسن بعتاب حاد اللهجة إلى شفيع آلامهن أن يكف فورا عن جعلهن حزانى وثكالى بهذا الشكل المفجع.
– ما من داع لكلام مرافق لهذا المشهد ليصفه أو ليعبر عن فداحته، وحديث المراسلين والمراسلات لن يفي المشهد عظمته وهيبته التي أغارت على لون الفجر فأحالته رمادياً كالحاً، فهو يتكلم عن نفسه: أشباح مسرنمة ومن كل الأعمار، خارجة بملامح مرتعبة من أحياء حلب القديمة لائذة بالوطن، تُجمد رؤيتها الدم في العروق، وفي منتصف المشهد، وعلى قمته وفي مقدمته، نساء يبدين وكأنهن بتوشحهن للسواد خارجات من عوالم لوحة لـ “لؤي كيالي” يرفعن بأكتافهن المنهكة رعب وخوف أيام طويلة مضت عليهن في ضيافة الموت، في أحضانهن يلوذ أطفال صغار لا يمكن التعرف إن كان هذا صبي وتلك فتاة، الجميع يرتدون اثمالا،الأثمال لا جنس لها!، وكان أول ما طلبته أم لابنها أن يأكل، لكونه لم يأكل منذ أسبوع. من يسمعها يعتقد أنها أكلت خلال الزمن نفسه، حتى تطلب الطعام لأبنها دونها، لكن هذا ما لم يحدث.
مرة أخرى إنهن النساء السوريات، ومرة أخرى يتكرر المشهد ومرة أخرى يصير الحزن سيدا لا راد لمشيئته، وفي تلك الأكباد التي فتّها القهر، طاب له المقام.
– في قصة الزير سالم كما رواها الراحل “ممدوح عداون” للتلفزيون في المسلسل الشهير “الزير سالم” تقول في واحدة من المشاهد، الممثلة الراحلة “نجاح العبد الله” وهي تتوجه بيديها إلى السماء بعد أن أخذت الحرب عددا من أخوتها ثم زوجها ثم بنيها، تقول: يا إله السموات، وكأن هذه الحرب كلها ضدي أنا وحدي” الصدق الذي نقلته الراحلة الكبيرة “نجاح” في هذا المشهد، لا يزال كالسكين كلما ذكرته يلمع نصلها في خاصرتي، ولكن واقعيته تخرج من إطار الدراما والمتخيل لتحط في لسان حال كل سيدة سورية فقدت غاليا في هذه الحرب.
هذه بعض من أسرار النساء السوريات، وهن ينظرن إلى الغد قادم لا محالة من أرحامهن الطاهرة، فهلا توقفت أيها المترجم الأمين عن تكرار ببغائي لما يلقى إليك من ترهات الميديا والفيس عن أسرار “الأنثى”!؟.
تمّام علي بركات