ثقافة

“بدوي الجبل” في الملتقى الشعري بأبي رمانة الـشـعـر عـنـدمـا يصـبح خـالـداً

كحال كل الشعراء العظام، يغفون وتبقى قصائدهم بحروفها، ومفرداتها، ومعانيها، ترن وتشغل البال، كحال “المتنبي، وأبي تمام، وأبي النواس وابن الفارض، وغيرهم”، هو حال شاعرنا الكبير “بدوي الجبل” 1900-1981، الشاعر الذي حيكت عنه حكايات في نباهته الشعرية، وقدرته المدهشة على القول الشعري بطلاقة بليغة، وبلاغة محكمة، شاعرنا كان محور الملتقى الشعري الذي دارت مدارته في المركز الثقافي العربي– أبي رمانة- ضمن فعاليات الملتقيات الثقافية التي ترعاها وزارة الثقافة، حيث تنطع لمهمة القراءة في أعمال بدوي الجبل كل من: “د. وفيق سليطين”، والشاعر “د. سعد الدين كليب”، والشاعر والمشرف على الملتقى الشعري “صقر عليشي”، وصار إلى تقديمها الإعلامي “جمال الجيش”.
ثلاثة عناوين رئيسية حملتها الندوة لجمهور المركز، والمفاجئ في هذا الجمهور، وعلى قلته العددية، أن له باعاً طويلاً في الثقافة الشعرية، والفكرية منها بشكل خاص- بناء على ملاحظات شخصية ومتكررة- وهو يدأب للحصول عليها مما تقدمه المراكز الثقافية، كالسيدة المواظبة على حضور فعاليات المركز منذ أكثر من عقدين، والتي نبهتني إلى عديد من الأخطاء اللغوية التي وقع فيها المحاضرون، قبل أن تعزو هذا إلى الإرباك الخطابي الذي يصيب محدثينا، رغم أنهم ضليعون باللغة، وهذا شأن طبيعي، أما العناوين التي كانت محور الملتقى، فقد بدأها “د. وفيق سليطين” الذي ارتقى مرتقى وعراً في تقديمه لعدة مباحث جديدة وصل إليها في قراءته النقدية لعوالم قصيدة بدوي الجبل، وما كان لهذه التجربة التي أثرت ليس المكتبة العربية فقط، بل والعالمية، بأساليب، ومواضيع شعرية لافتة في دلالتها، واختيارها، وأداتها التي صيغت بها في لغة الشاعر، أما العناوين التي خاض فيها “سليطين” فكانت بعنوان: “الصوغ التراثي والتجاوز الفني عند بدوي الجبل”، وإذ وصفتُ ما قدمه “سليطين” في سياق محاضرته بكونه “وعراً”، فلخوضه في شأن نقدي متخصص وجداً، ويكاد يكون مبحث كتاب للقراءة، أكثر منه كلاماً موجهاً لبقية جمهور لا نريده أن يغادر هذه المراكز، بكلام متعال عليه، إن كان في اللغة التي راح “سليطين” يحملها بمصطلحات، ربما لم يسمع بها الجمهور سابقاً، دون أن يعذّب نفسه ولو المرور عليها لتوضيح ملخصها، على الأقل كرمى لخاطر ولو خمسة أشخاص لا يعرفون ما قصده بالـ “البرناسية”، أو “الفن لأجل الفن” مثلاً التي وردت في حديثه أكثر من ثلاث مرات، وبغض النظر عن كون “البرناسية” تنطبق في مفهومها الأشمل على أشعار بدوي الجبل، باعتبارها تذهب نحو اعتبار الأدب غاية في حد ذاته، وإلى وجوب الامتناع عن استعماله وسيلة لعلاج القضايا الاجتماعية، والسياسية، بغض النظر عن هذا الآن، إلا أن محاضرة “د. سليطين” على أهميتها في المقاربات النقدية التي طرحتها، غصت بالمصطلحات، والشروح البعيدة عن الذهنية النقدية التي يعرفها جمهورنا، والتي كان من الممكن التعامل معها وفق النصيحة الذهبية لـ “جعفر الصادق” وهو يوجّه أحد طلابه بالطلب إليه عندما يقدم على شرح شيء ما، أن “سيروا سير أضعفكم”.
ما فات “سليطين” لم يفت على ناقد محنك وضليع كالدكتور “سعد الدين كليب”، والذي حملت محاضرته الرشيقة عنوان: “أطياف الجمال في شعر بدوي الجبل”، حيث صال “كليب” وجال في التعريف بمواطن الجمال الحسية، والكلاسيكية، وحتى النفسية في قصائد “بدوي الجبل”، وحدث أن تفاعل الجمهور في أكثر من مرة مع المعلومات الملطفة، والمخففة، والرشيقة التي راح يخبرها الرجل ببراعة، معرفاً بمواطن عميقة نقدياً لمسها في قراءته للشاعر، وها هو يقدمها للجمهور على طبق من فضة لغوية، وتوضيح بليغ استمتع الحضور به، وفهم مراميه، “البلاغة هي كيف تبلغ الآخر بمرادك، وهي على ستة مستويات”.
أما الشاعر “صقر عليشي” الذي يحمل دائماً رهافته الشعرية والحسية، سواء في قصيدة يلقيها، أو في مداخلة نقدية يقدمها كالتي قدمها في الأمسية، وحملت عنوان: “بدوي الجبل أضواء جديدة على مسيرته”، فقد تناول فيها “عليشي” العديد من قصائد “محمد سليمان الأحمد” التي أثرت بدواخله، وتركت أثرها العميق بإحساسه الشخصي، معرجاً على علائق جديدة عرف من خلالها أكثر شخصية هذا الشاعر الفذ.
كثير من الانتقادات توجّه لمراكزنا الثقافية، وهذا ليس مقام إيرادها الآن، إلا أن ما يحسب لهذه المراكز فعلاً أن لها جمهوراً يحبها، ويحب نشاطاتها، بل وينتظرها، فلنغنها بالمزيد، ولنحرص على أن تكون بيوت جميع أهل الثقافة وجمهورها.
تمّام علي بركات