ثقافة

“أنتيخريستوس”.. كل شيء قابل للتأويل والتزوير !

شكّل “بوبي فرانك” محور قضية غامضة، شغلت الرأي العام في عشرينيات القرن الماضي، ونالت الاهتمام الشعبي والمتابعة الإعلامية، ما وصل إلى مستوى دولي، وبوبي شاب ينحدر من عائلة يهودية ثرية تقيم في شيكاغو، تعرّض للقتل من قبل اثنين من الشباب اليهود الأثرياء وسكان الحي أيضاً، عُرف القاتلان، ولم يُعرف دافع القتل، ما عُرف عن المجرمين انتماؤهما إلى الأخوية الماسونية الرسمية، اختطفا بوبي أثناء عودته الروتينية من لعبة بيسبول، ضُرِب على رأسه حتى أصيب بالإغماء، ثم قُتل ونُزعت عنه ثيابه، وتم تشويه ملامحه بمادة الأسيد بعد أن تم رميه في إحدى  مواسير الصرف الصحي، وبعد كل هذا؛ تم إرسال طلب فدية إلى الوالد الباحث عن ابنه، في محاولة للتغطية عن السبب الحقيقي للقتل والذي بقي خفياً حتى اليوم، ما جعل من الجريمة مصدر إلهام للعديد من الأعمال الأدبية، من بينها فيلم لمخرج أفلام الرعب والغموض ألفريد هيتشكوك، وعدد من المسرحيات والروايات، لعل آخرها رواية “أنتيخريستوس” للكاتب المصري أحمد خالد مصطفى، وهي الترجمة اللاتينية لكلمة “المسيح الدجال” والتي تصور أن القتل كان على خلفية كشف الشاب القتيل عن أسرارٍ تتعلق بالأخوية والماسونية شديدة السرية.
“الغريب أنه قد وجد على طاولة بوبي الكثير من أوراق اللعب المتناثرة هنا وهناك؛ غير أنه كانت هناك ثلاث أوراق موضوعة بعناية شديدة على الطاولة الخاصة به؛ الورقة الأولى مكتوب عليها “وباء من الشياطين”، والورقة الثانية مكتوب عليها “بيغ فوت”، وهو المخلوق المعروف ذو الشعر الغزير الذي يطلق عليه الأهالي في أمريكا “ذو القدم الكبيرة” الورقة الثالثة مكتوب عليها “المسيح الدجال” ص389.
غلاف الرواية يوحي بأجواء الرعب، ولكن على العكس فإن بوبي بطل الرواية؛ سيأخذ القارئ، في رحلة سلسة إلى الماضي، إلى الأزمنة ما قبل الميلاد، إلى زمن القصص الساحرة والخرافية والعصر البابلي ليكشف أحداثاً وقصصاً حقيقية صارت في حينها، في قالب من لعبة الورق يشرك بها كل قرائه. سيحكي عن ملاحم تاريخية، قرأنا عنها في كتب التاريخ والقصص الشعبية، عن النمرود وزوجته سميراميس محبوبة الحمائم، أيضاً عن هاروت وماروت، وإنانا التي عشقتها الآلهة في الأساطير.
“نظر النمرود وسميراميس إلى جيش “كاوي” الحداد في سخرية؛ ثم نظرا إلى بعضهما، دخل في نفوس جنود النمرود الحماسة لتقطيع ذلك الجيش الضعيف إرباً حتى لا يبقوا منهم شيئاً، لكن عيون جنود الجيشين توجهت فجأة إلى جهة واحدة ينظرون كلهم إلى شيء ما، شيء آت من جهة مشرق الشمس” ص 38.
وسينتقل بك إلى زمن آخر زمن الملك سليمان، وفرسان الهيكل وقصة البنائين الأحرار،  سيكتشف بعضاً من أسرار المحافل الماسونية، بعدها يعرج على عهد النبوة، ويرتد بك مرة أخرى إلى العام 1450 ليحكي قصة دراكولا في زمنه، ليصل إلى واقعة فتح القسطنطينية، ويقفز بك إلى أمريكا، حيث قصة إبادة الهنود الحمر، فالثورة الأمريكية، والدور الذي اضطلعت به الجاليات اليهودية، والمحافل الماسونية في العديد من الأحداث كاستقلال أمريكا، ومقتل جون كنيدي، وأنور السادات، وكيف تسلل اليهود إلى مفاصل الدولة العثمانية تمهيداً لوضع اليد على أرض فلسطين.
“لقد تمكنا من إشعال الثورة الفرنسية.. نحن من نادى وأول مرة، وقال “حرية، إخاء، مساواة”، كلمات كلما رددها الناس، كلما فشلوا أكثر وتقيدت حرياتهم أكثر، إن هناك كلمة نتنة تقال دائماً.. ديمقراطية، لا شيء يُدعى ديمقراطية أو تحرر، وما إلى ذلك، كل ذلك وهم.. نحن الوحيدون الذين نعرف أنه وهم” تعاليم حكماء بني صهيون ص312.
وأخيراً يعود إلى ما قبل الميلاد من جديد إلى عهد النبي موسى ليكشف شخصية “أنتيخريستوس”، والنهاية التي سيؤول إليها مصيره.
“ابن الشيطان أنت يا أنتيخريستوس، ابن لوسيفر؛ ابن إبليس حامل نطفة الثور، لأجلك حدثت كل فتنة في الأرض إلى يوم يبعثون، أُنسي وجني أنت” ص308.
في التاريخي يحسب لصاحب الرواية أن جميع الشخصيات الواردة في حكاياته موثقة في صفحات التاريخ حقيقية؛ سواء بما يتعلق بالبشري منها، أم تلك التي تدخل في باب الخرافة والأسطورة، وهو أمر حرص على ذكره في بداية الرواية العجيبة التي تدخل القارئ في دوامة البحث والتحقق من كل معلومة.
يحسب له أيضاً أنه أعطى للخرافة لمسة من التوثيق التاريخي بأسلوب سردي جميل ولغة سهلة سلسة تتسارع فيها الأحداث، وتتسارع حركة القارئ خلفها، إضافة إلى تلك الطاقات التي حملت شرحاً مبسطاً في بداية كل حدث، أو تأخذ بيده في النهاية إلى حيث يريد.
لم تخلُ الرواية من التطرّق إلى العديد من القضايا الآنية؛ تتعلق بالديمقراطية والتاريخ الذي يتعرض للتزييف، والتحريف الذي طال الأديان في بعض الأزمنة، الفتن والمؤامرات؛ قضايا مصرفية وبنكية، وسؤال حول الانتماء المشتت ما بين الدين والعرق والانتماء إلى التقسيمات التي رسمها المستعمر الفرنسي والانكليزي، وفي كل هذا يبقي الكاتب نفسه أقرب إلى الحياد.
رواية مليئة بالأسرار والمعلومات، تاريخ بلمسة دينية أحياناً. تاركاً لشخصياته سواء الحقيقية منها أم تلك الخرافية تتوجه بحديثها إلى القارئ مباشرة، ودوامة احتاجت من كاتبها إلحاقها بكتاب يحاول من خلاله تقديم بعض الأجوبة على أسئلة القراء، من خلال عدد من المقالات التي تناولت الرواية بالتحليل، ويعرض للمصادر التي اعتمدها في العمل، لم تأت أجوبته مقنعة في أغلبها، لكنها كشفت بعض الأسرار الأساسية لروايته.
من المؤكد أنه لا يمكن التسليم مطلقاً بأن كل ما ورد في الكتاب هو حقيقة، وهو ما أراد الإيحاء به صاحبها؛ إذ تبقى وجهة نظر خاصة به على الرغم من محاولته الظهور حيادياً في كل الآراء المتخفية خلف الحكايات، لتبقى قراءة العمل متعة حكائية فقط، ولا يمكن اعتمادها مرجعاً تاريخياً، وكونها مبنية على وقائع تاريخية، لا يعني بالضرورة واقعية أحداثها الواردة، وإلّا فما دور الخيال في الأعمال الأدبية.
بشرى الحكيم