وقع “الراقص هازم الموت” في بيروت شـادي صـوان: لا تسـألـونـي عن الحـزن فـي ديـواني
عبر مسيرة عمرها خمسة وعشرون عاماً في كتابة الشعر، واعتبار كل قصيدة خطوة بالنسبة له نحو اختراق عالم مليء بشتى أنواع الثقافات والمرجعيات، أصدر ووقّع مؤخراً ديوانه الجديد “الراقص هازم الموت” في بيروت، والذي جاء كما بيّن الشاعر شادي صوان نتيجة مخاض طويل زمنياً عمره عشر سنوات منذ آخر مجموعة له في دمشق “الرقص على إيقاع الاستفهام”، وقد كان كما سبق وصرح خطوة أولى له بالمعنى القيمي، حيث ليس هناك شعور بالرضى، أو الاكتفاء مما يعتبره خطوة أولى بالمعنى التراتبي، وكلّ ما سيليه سيكون عددياً وفنياً أفضل، إلى جانب أنّ هناك عامل الشهرة الذي يُمنح عبر طباعة مجموعة، وتوقيعها في معرض الكتاب الدولي في بيروت، وهو عامل حاسم أيضاً في تقييم وتحديد صفة الخطوة التي تم إنجازها، أي إصدار الديوان.
لعبة لغوية
< تقول في مقدمة الديوان: “زمن ضاقت فيه الحكمة.. ضاع الشعر.. وجف الماء”.. من هنا أسألك عن أي زمن تتحدث؟ ومتى يضيع الشعر برأيك؟.
<< أتكلم عن الزمن الحاضر الذي انحدر فيه الشعر إلى مصاف أقل بكثير مما أطمح إليه شخصياً، وربما يخالفني الكثيرون هذا الرأي، وهذه مسألة إيجابية جدلية تستحق الوقوف عندها طويلاً، الشعر يضيع عندما ينقطع عنه الأوكسجين، ويصبح مجرّد لعبة لغوية بأيدي من يمتلكون التقنية، ولا يتمتعون بالموهبة، نعم للشعر -كأي مفهوم أو مصطلح- معاييره الخاصة وفق الزمان والمكان الذي كُتب فيه، وإن تعاملتُ معه ككائن حيّ سأجد حتماً مؤقِّتاً خاصاً به يُحددُ ساعة ظهوره ككائن ناضج ذي فعالية، ويحدّد مصيره أيضاً، حالياً ووفق المعطيات التي بين أيدينا، والنماذج الشعرية الحقيقية، يقترب الشعر كثيراً من الفن التشكيلي بأهدافه، ووظائفه الجمالية، أي إبراز الصورة الفنية ليستمتع بها الآخر، وإن كان ذلك على حساب المعنى من تشكيل هذه الصورة، والسبب يعود برأيي لذاتية الشاعر، والالتحام بها، والغوص كثيراً لمحاولة إبراز الهوية الفنية، فتصبح الأنا الجمعية، وهموم الآخر، ومشاكله ثانوية أمام ما ستقدمه القصيدة الشعرية، والشاعر من فن، وصور.
< أول ديوان “أول الرقص” صدر عام 2003، وفي عام 2005 “الرقص على إيقاع الاستفهام”، والثالث عام 2016 أريد أن تحدثني عن المراحل الشعرية التي مررتَ بها، وما أبرز ما يميز المرحلة الحالية؟.
<< لكلّ مرحلة ظروفها، ومذاقها الخاص، إنها تشبه مراحل حياتي الشخصية، مرحلة التكوين والانطلاق عبر المجموعة الأولى، حيث الاندفاع العاطفي، وروح المغامرة، والعناد الشخصي، يحكمون ما أكتب وما كتبت، إنها الفطرية الكاملة غير المصقولة، ولها جماليتها الخاصة، ومازالت تعيش بي وتنطلق عبر نصوص حالية من وقت لآخر، مرحلة النمو والاكتشاف عبر المجموعة الثانية، حيث يبدأ العقل بطرح الأسئلة، وتمييز الأشياء، وغربلة بعضها، والتغذي من مصادر مختلفة لبناء جسد النص، إنها مرحلة ضرورية للتماسك والبروز بصورة أفضل، والتحدي المقبول مع بعض المطبّات والهفوات التي تعيق بسبب افتقار لغويّ ربما، أو مرجعية خاطئة اعتنقتُها بغية الوصول، أما مرحلة الديوان الثالث والتي استمرت عشر سنوات فهي الأصعب والأرقى، حيث لا بدّ للشخصية أن تبرز نضوجها وتتحول يرقات الكلمات إلى فراشات.. إنها مرحلة تحمّل المسؤولية عن كل كلمة وجملة وحرف، مرحلة التمكن من استخدام الأدوات واستخلاص التجربة الشخصية بحكمة وتوظيفها ضمن النصوص.. ثلاثة عشر عاماً ربما لا تكون كافية للاكتمال، ولكنها كافية لتقول ها أنذا سأترك بصمة لا تزول بموتي، فرقصي سيهزم الموت رغم كل المصاعب والتحديات.
< يطغى الحزن على معظم دواوينك الشعرية، ما الأسباب وراء ذلك؟ ولمن تكتب الشعر، لنفسك أم للآخرين؟.
<< الحزن بمعناه الإنساني الشامل نافذةُ المتعبين الموجوعين الذين يلمسون الفساد، والظلمُ يغطي مساحات حياتهم للتعبير عما يعتمل في دواخلهم، وقد عبّرت عن أصالة هذا الشعور الجارف عبر قصيدة “لا تسألوني عن الحزن” في ديواني الأخير، فثقوب المسامير واضحةٌ والدماء، ولا مناص لمن كان سلاحه كلمته إلا أن تكون نافذته الحزن.. نعم هناك نوافذ أخرى تنفتح وفق الحالة النفسية إلا أن نافذة الحزن دائماً مفتوحة ومشرّعة للهواء.. إنّ معظم نصوصي ذاتية وعامة في نفس الوقت.. مسألة التوازن ليست سهلة إلا أنها ليست مستحيلة أيضاً.. أنْ أرضي نفسي وأرضي المتلقي نجحتُ نسبياً في تحقيق هذه المعادلة وما زلت أصبو لأصل إلى درجة عالية رغم الصعوبة الكامنة في فهم الآخر.. الشعر كله مهام وأهداف وليس له أية مهمة وهدف نهائي.. إنه تحرك دائم نحو الجمال والاكتشاف، نحو عوالم إنسانية سهلة، وبعضها بالغ التعقيد.
الشعر رقص والنثر مشي
< “خارجاً عن القانون”.. مجموعة قصائد نثرية ماذا تحدثنا عنها، وبماذا تختلف عن قصائدك الشعرية؟.
<< الشعر رقص، والنثر مشي، ولا بدّ للراقص أن يتوقف قليلاً ويمشي قليلاً.. مجموعة القصائد النثرية “خارجاً عن القانون” محاولاتٌ من شاعر لجعل مشيه ذا أهمية فنية وجمالية لا تقلّ وربما تتفوق أيضاً على رقصه.. في قصائدي النثرية مرونة لغوية أكبر، وإيقاع الصدمات والدهشة يعوّضُ قليلاً عن إيقاع قصيدة الشعر المباشر والظاهر إن كانَ في التفعيلة (الحر) أو العمود الخليلي.. “خارجاً عن القانون” مجموعة خارجة عن نظام الرقص وليس لها أي مدلول اجتماعي أو سياسي.
< ما زالت قصيدة النثر موضع تساؤل واختلاف في وجهات النظر، فمتى تصبح قصيدة النثر بالنسبة لك حاجة وضرورة لا بد منها؟.
<< أنا مؤيد للجمال أينما وُجدَ، شعراً أو نثراً، وقصيدةُ النثر الناضجة التي تمنحني قيماً جمالية من حيث الشكل والمضمون لا تقلّ أهميةً عندي عن قصيدةِ الشعر المماثلة.. قصيدة النثر مشيٌ لطيفٌ ومتزنٌ على إيقاعِ نبضِ القلب، والشاعرُ الذي رقص على أوتار خارجيةٍ وإيقاعٍ خارجي يستطيعُ المشي بتلك الطريقة.. إنها ضرورة كي لا يصابَ الجسد بالوهن من كثرة الرقص، كما أنّ قصيدة الشعر ضرورة كي لا يدركَ الجسد الترهل والعطب.. النثر والشعر عمودا الأدب، وهما عماد حياة الفنان (الشاعر).
< عملتَ في مجال الإعلام والصحافة وتكتب المسرحية، فكيف تصف هذه التنقلات في حياتك الكتابية؟.
<< إن كلّ ما له علاقة بالصحافة والإعلام المتخصص من مقال ودراسة نقدية أدبية أو فنية يندرج ضمن إطار الكتابة النثرية، والنص المسرحي هو نصٌ أدبيّ نثري على الورق قبل أن يتحول إلى مشهدٍ حركي فنيّ على الخشبة.. إنّ الموهبة والقدرة على الكتابة في مختلف الأجناس النثرية مُنحتْ لي فلمَ لا أبرزها وأستخدمها لإيصال أفكاري المختلفة؟.. أحياناً الشعرُ لا يكفي لما أريد قوله، أو للتعبير عن حالة أو قصة، أو حتى للحديث عن شخصية عامة أو خاصة، فيأتي دور النثر عبر المقال، أو الدراسة، أو الخاطرة، أو النص المسرحي ليحيط بكلّ ما أريد، وهناك ضروريات أخرى ربما استدعتها ظروف الزمان والمكان اللذين وُجِدتُ فيهما، ضروريات مادية وفنية ومعرفية.
< كيف تتعامل مع قرائك؟ وبأية طريقة تقيّم ما تكتبه؟.
<< منذ لحظة الانطلاق بكتابة أول حرف، وحتى الآن، وأنا أصغي بكلّ مداركي وحواسي لما سيقوله الآخر-القارئ عما أكتبهُ أو كتبتُه.. أحترم وجهة نظر وانطباعات القارئ مهما كانت سلبيةً أم إيجابية.. إنهم شركائي الحقيقيون، فلا بدّ لي أن أحترمهم وأنصفهم.. طريقة التقييم للقارئ المثقف العادي لما أكتب تكونُ على شكل انطباع، وغالباً ما كانَ هذا الانطباعُ إيجابياً.. المهم ما يبقى من أثر لدى القارئ.
< والنقد كيف تعامل معك؟ هل أنصف كتاباتك؟.
<< النقد بشكله المتخصص للأسف لم يُصبْ كتاباتي منه سوى القليل، والسبب عائدٌ لضعف في حركة النقد، أو قلة من يشتغلون في المجال النقدي، ولربما كان الخلل بعدم قدرتي من خلال الكتابة الوصول لأكبر عدد من النقاد.. بالعموم كلّ من تناول تجربتي شعراً أم نثراً كان له رأي إيجابي بالمجمل، ولا يخلو بعضه من تقديم الملاحظات القيّمة لتحسين مستوى الكتابة لدي.. أنا مستمعٌ جيد وشغوفٌ بما سيُمنح لي ككاتب من قبل القارئ المتخصص، وأحبّ الإطراء من وقتٍ لآخر لجملةٍ أو صورةٍ مبتكرة، فهذا دافعٌ قويٌّ أيضاً للاستمرار، وتستفزني اللغة الثقيلة الجامدة في النقد، ولا أستسيغ الإفراط بالمجاملة، ففيها ما يكفي للثبات بالمكان وعدم التطوير.
كثُرَ المنظِّرون
< هل أنت مع من يقول: “كثر الشعراء وقلّ الشعر؟.
<< لا.. أنا مع من يقول كثُرَ من يدعون كتابة الشعر وقلّ الشعراء.. للأسف إنهم عملةٌ نادرة ممن يتصفون بالشاعرية العضوية، أي العيش كشاعر بشكل عملي، لا على صعيد التنظير فحسب.. كثُرَ المنظّرون والنُظّام، وقلّ من يمتلكُ الموهبة والثقافة العضوية.
< كيف تبحث عن الجديد في كتاباتك؟ وماذا يعنيك فيها بالدرجة الأولى، المضمون أم الشكل؟.
<< إنّ أشكال الأجناس الأدبية المعروفة، شعرها ونثرها، تضيق أحياناً على الكاتب وتكادُ لا تكفي، ولكنني أتوقف، وأسأل نفسي: هل استنفدتُ حقاً كلّ الأشكال المعروفة لجنس أدبي محدد، وكل المخططات البنائية التفصيلية كي أبحثَ عن شكلٍ جديد؟ وتكون الإجابة عادةً بلا.. إن الشكل مهم كاللباس الخارجي للإنسان، وشكل وجهه، وتسريحة شعره، له مؤشراته ودلالاته على طبيعة ونفسية ومضمون النص، ولكنه غشاش، ومزيّف في أغلب الأحيان، ولا بدّ من الاحتكاك المباشر، والولوج إلى العمق للتأكد من صحة المؤشّر والدلالة.. المضمون وما يحمله من عاطفة وأفكار وثقافة هو الأهم، وهو المتحرّك الأساسي الواجب تطويره، وتعميقه، وجعله صالحاً وبنّاءً للحياة.
< ما هو جديدك؟.
<< أكتب اليوم مجموعة قصصية، وهي من النمط الطويل على شكل روايات قصيرة، تتحدث عن موضوع واحد بعنوان “أوّل الحب”، إضافة إلى نص مسرحي بعنوان “المرأتان” سيُنشَر قريباً في مجلة “الحياة المسرحية”، وهناك مشروع طباعة مجموعة شعرية صغيرة بقصيدة واحدة بعنوان “آلام يهوذا”، أرجو أن يُكتبَ لي النجاح لتقديمها بالصورة اللائقة.
أمينة عباس