.. ورحل آخر “عضوات” الشام
سلوى عباس
هكذا تمضي بنا الحياة، وهكذا نقضي أيامنا في التعاطي مع الموت الذي أصبح حدثاً يومياً نعيشه تجاه أحبة وأصدقاء غادرونا وتركوا في قلوبنا حسرة سترافقنا حتى نلاقيهم.
بالأمس كان صوت الفنان رفيق سبيعي يصدح عالياً، يغني للشام ولسورية التي أحب، سورية التي خربها المتآمرون.. لكنه اليوم يغادرنا ولم يمهله القدر أن يطمئن عليها آمنة مطمئنة، مضى إلى رفاق سبقوه تاركاً لنا تاريخاً فنياً سيبقى منارة لأجيال قادمة، فما بين أغنيته “أنت أملنا” التي غناها في عام 2011 وأغنيته الأخيرة “عنبك ياشام” التي أطلقها في العام الماضي حكاية وطن نسج فناننا الراحل تفاصيلها بخيوط الحب والانتماء، فكانت راية خفاقة في سماء المجد والعزة.
ومن يبحث في تاريخ الدراما السورية منذ بدء تأسيسها حتى الآن يكتشف أن هذه الدراما، أو الفن السوري بشكل عام حقّق هذا الحضور عبر رواده الأوائل الذين قدّموا الكثير من التضحيات حتى أوصلوه إلى هذه المكانة الراقية، حيث حوربوا كثيراً ومع ذلك لم يستسلموا وتابعوا مشوارهم حتى حقّقوا رسالتهم النبيلة التي نذروا أنفسهم من أجلها، وهؤلاء يمثلون حتى الآن الرافعة الفنية والفكرية للدراما ماضياً وحاضراً، من خلال مشاركاتهم التي لا تزال حاضرة تجذب الكثير من المشاهدين لمتابعة عمل ما لمجرد مشاركة أحدهم فيه، والراحل سبيعي من هؤلاء العمالقة، فهو ينتمي إلى جيل الفنانين المخضرمين والرواد الذين واكبوا انطلاقة الدراما التلفزيونية منذ بداياتها حتى يومنا هذا، كان ينظر للحياة بكل تفاصيلها على أنها تجارب يعيشها الإنسان عبر اختلاطه بالناس واكتشاف الحياة، حيث تتطلب التجارب منا الاستيعاب والفهم والمقارنة واتخاذ الموقف الصحيح الذي يحفظ إنسانيتنا، وقد تشابهت تجاربه مع تجارب الناس بتناقضاتها وتعرجاتها ومحطاتها، فكل محطة مر بها تركت آثارها عنده، ولكل تجربة قيمتها وفائدتها ومضارها، فهو كما عرفه الجميع كان يتمتع بحالة من التوازن النفسي كان يردها إلى الأرضية السليمة التي نشأ فيها، وحالة الحب والاحتواء والأمان التي عاشها في كنف أسرته، إضافة إلى المعرفة التي سعى لها من أجل التمثيل والتي أنقذته من أمور كثيرة كانت تهدّد حياته في سني عمره الأولى، ومن حسن حظه أنه دخل مجال الفن الذي أتاح له الاطلاع على كل جديد، وأن يعيش الحياة بكل أطيافها وتلوناتها.
انتماؤه لسورية الأم، كان خياره الذي اختصر كل الفئات والأحزاب، وما كان يميز شخصيته الإنسانية والفنية هذا الارتباط الوثيق بين ثقافته العالية وتأكيده على مضمون الأعمال التي يشارك فيها، فهو لم يقبل بأي دور سطحي أو لا يحمل قيمة تضيف إلى تجربته، إضافة إلى أسلوب أدائه الذي تميز فيه عن الآخرين، ويرى الدراما رافعة ثقافية مسؤوليتها رفع مستوى وعي المشاهد، باستخدام المفردات المشتركة بين العامية والفصحى وتكريسها، لأنه يرى في اللغة العربية بكل ما تتمثله من جمالية وخصوصية في حياة المجتمع وثقافته الحاضنة الأهم لتراثه وهويته.
رحل هذا المبدع الكبير كما رحل مبدعون كثيرون قبله، رحلوا وتركونا لزمن مرهون بدقات الثواني التي تقرع أجراسها في آذاننا، فنبقى مرصودين لعذابات الوقت الذي ينسرب سريعاً، ويترك في أيدينا حرارة الرمل ويرسم وجهنا بالغبار.. الرحمة لروحك شيخ الدراما والفن، وكل العزاء لأهلك ومحبيك بفقدك.