ثقافة

لا شـفـاعـة للـصحـافـة الـورقـيـة

غادر الرجل كرسيه، متثاقلاً وكأنما روحه إليه مشدودة، بصمتٍ قاتل؛ تناول معطفه، أطفا أنوار مكتبه الغارق مثله في الحزن، ثم مضى دون أن يمنح الناظر إليه حتى رفّة من عينيه، لعله كان يحاول أن يعض على الألم، أن يغلق الطريق أمام الدمع الذي لو أنه جرى لأغرق المكتب والمبنى والشوارع وكل مكتبة وزعت الصحيفة يوماً ما، الصحيفة التي نازعت طويلاً، قبل أن تسلّم وتستسلم للمصير، وتبتلع الصوت الذي كانت منحته لأولئك “الذين لا صوت لهم” والذي كان شعارها الدائم.
هكذا بعد أكثر من أربعين ربيعاً، توقفت صحيفة من أعرق الصحف العربية، صمدت خلالها أمام العديد من الظروف الصعبة التي واجهتها وواجهت الصحافة بشكل عام.
في بدايات العام الماضي، في آذار تحديداً، بدأت ملامح أزمة الصحيفة حيث كان من المتوقع توقفها ورقياً؛ لتكتفي بالنسخة الإلكترونية منها فقط، حينها لم يتمكن أحد العاملين القدماء فيها، من إخفاء دموعه وقال: كنت أنتظر منها أن تكون ورقة نعيي، لم أكن أنتظر أن أكون من ينقل خبر وفاتها.
المحزن أيضاً أن استمرارها بالصدور طوال فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، في العام 1982، لم يشفع لها، مرحلة صعبة شهدت صعود نجمها لتتحول بعدها إلى أيقونة ثقافية لها مكانتها وحظوتها بين القراء وجمهور الباحثين عن الخبر والمعلومة .

ليست الأولى
لم تكن السفير الأولى؛ التي ترمي أسلحتها وتتوقف عن الصدور، بغض النظر عن الأسباب التي وقفت خلف الأمر، بينما الدلائل تشير إلى أنها لن تكون الأخيرة، إذ لجأ عدد كبير من الإصدارات الورقية العربية منها والعالمية، إلى إنهاء عمل قسم كبير من العاملين ضمنها، بينهم صحفيون ومحررون بأسماء عريقة تم إنهاء خدماتهم فيها، خطوات صعبة مهدت لقرارات أكثر صعوبة وأشد وقعاً.
من الملاحظ أن الصحافة الورقية تشهد ومنذ فترة؛ تراجعاً على مستوى العالم، حتى أن الاندبندنت البريطانية الواسعة الانتشار أوقفت نسختها الورقية لتكتفي بالإلكترونية منها، بينما سبقتها إلى ذلك صحف أمريكية وعريقة من بينها “نيويورك تايمز” الأسبوعية، و”يو إس نيوز أند ريبورت” التي تعتبر الثالثة من حيث الانتشار في أمريكا، بينما لجأت غيرها وتلافياً لأمر الإقفال، إلى تخفيض  العدد المطبوع منها، كصحيفة “بوسطن غلوب وأنجلس تايم” وأيضاً مجلة التايم الأمريكية الواسعة الانتشار عالمياً.

سوق منافس
لا يحتاج الأمر إلى التوقف كثيراً لمعرفة الأسباب، بل إن الأصابع تشير بوضوح إلى نوعٍ من النضج والحضور الواثق للإعلام الإلكتروني، والقدرة على القيام بالدور المناط بالإعلام بشكل كامل تقريباً “دعكم من المشاعر وتلك الحاجة التي تتملكنا نحن الذين أدمّنا ملامسة الورق وتحسس الكلمات بينما الأعين تلاحق الخبر” بالإضافة إلى القدرة على تغطية نفقات العمل الذي يوفره مردود الإعلانات في السوق الإلكتروني “سوقاً بات منافساً من الدرجة الأولى”.
ترانا هنا، وصلنا إلى هذه المرحلة من إنضاج هذا السوق؟ يبدو أننا لا زلنا في البدايات التي تتجه إلى النهايات المحتومة لأغلب الصحف الورقية” وما كنا نرغب” لكن ثورة الاتصالات والمعلومات وشبكات الإنترنت، باتت تمتلك من القدرة على السيطرة على شريحة كبرى من القراء، الباحثين عن أسهل وأوفر السبل لتلقي الخبر، فسارعوا إلى التخلي عن صحفهم المفضلة، مقابل الانضمام إلى جيل كامل لا يتعامل مع الورق، بالإضافة إلى تبدل كبير وواضح على الاهتمامات وتوجهات مجتمعات الباحثين عن المعرفة وحتى قراء الكتب والمهتمين بالأدب والروايات، الذين لا بد أنهم لا يجدون غضاضة بالحصول على حاجاتهم ومتطلباتهم المعرفية والثقافية بشكل اقرب إلى المجاني، وبالطبع الأمر سينعكس سلباً ويؤدي إلى تراجع مستمر ومتزايد في سوق مبيعات الإصدارات الورقية، وانخفاض مردود الإعلانات التي تشكل جزءاً هاماً وكبيراً من التمويل اللازم للاستمرار، والتي غيرت مسارها إلى الشبكات الإلكترونية والإنترنت بأكلافه المنخفضة نسبياً.
هذا المشهد القاتم ما زال يبدو أقل كارثية في بلدان ما زالت تلتمس المعرفة  من خلال الصحافة، والمطبوعة التقليدية، ليس حباً أو خياراً بريئاً إذ أن بلداناً لا زالت في عداد النامية تشير بوضوح إلى تزايد التوزيع الورقي لسبب بسيط هو الانتشار المحدود للانترنت وبالتالي شبكات الإعلام الإلكتروني التي باتت وحش العصر القادم للقضاء على ندّه الورقي.
المثير في الأمر أن هذه النظرة السوداوية والكئيبة؛ وهذا المصير المتوقع من الغالبية العظمى من العاملين في قطاعات الإعلام المتنوعة، انعكست سلباً أيضاً ليس على المقروء فحسب، بل طالت المرئي منها، ليذهب البعض بعيداً في الخشية من المستقبل، راسماً للتلفزيون مصيراً مماثلاً في التراجع مقابل طفرة كبيرة يشهدها “اليوتيوب” وإقبال متنامٍ من جماهير الأفلام والمسلسلات والدراما بشكل عام تفضل متابعتها دون أن تقيدها الأمكنة وأوقات البث المحددة.
…..
الفيديو الوداعي لصحيفة السفير انتهى  بأغنية تقول:
“أهو ده اللي صار وآدي اللي كان ما لكش حق تلوم عليّ”
والحقيقة أنها تجسد حالة وواقعاً تصعب السيطرة عليه؛ بينما الاستسهال والبحث عن الاحتياجات الفكرية بأقل التكاليف الممكنة بات متمكناً من أجيال أدمنت السرعة وحب الوصول إلى غاياتها كإدمانها تناول الطعام على شكل وجبات سريعة تملأ فراغ المعدة! فهل تراها تسدّ حاجة العقول؟!.
بشرى الحكيم