ثقافة

فيلم”الهدية” إيحاءات توحي بالجريمة لفكّ أسرار الماضي

مقولة”ربما تنسى الماضي لكن الماضي لاينساك” كانت المحور الأساسي لفيلم”الهدية” أحد أفلام مهرجان أفلام حديثة جداً الذي يعرض حالياً في الأوبرا، والذي أثار أيضاً مسألة الاعتذار من الآخر بعد تدميره فهل يقبل في هذا الموضع الاعتذار؟ تميّز الفيلم بالغموض والإيحاءات التي توحي بجريمة قتل، ولكن مفاجأة المخرج الاسترالي وكاتب السيناريو جويل إجيرتون كانت إيحاءات نفسية لتدمير الشخصية والانتقام من الآخر دون جريمة. لتفصح الأحداث الشائقة والخفية عن أسرار الماضي وألغازه التي يعتقد الإنسان أنها ماتت مع الزمن، إلا أن رسالة المخرج تثبت أن الماضي لايموت، لاسيما إذا طال حياة الأبرياء ودمّر حياتهم نتيجة اختلاق أكاذيب ونشر سموم تشوّه الشخصية، وهذا ما حدث لغوردن حينما هدّم حياته سايمون –جيسون بيتمان-الذي بدا بالفيلم بوجه آخر. اعتمد المخرج على الإيحاءات، والأحداث الصغيرة التي استخدمها كمفاتيح للتساؤلات والتوقعات، فنجح بالتأثير على المتلقي وجعله أسير اللحظة التالية موظّفاً العناصر الفنية مثل الإضاءة واختيار الأماكن المثيرة مثل الممرات الضيقة والمطبخ، مع تصاعد الموسيقا، الأمر اللافت أن السياق الدرامي للفيلم ركز على المنعطفات الشخصية والتغيير الدرامي لها بكشف الأحداث على حقيقتها بالعودة إلى الماضي من خلال المشاهد التي كررت مقولة الفيلم”الماضي لاينساك”. وفي منحى آخر ركز على البعد النفسي بإيضاح مخاطر الإدمان على الحبوب المهدئة، والبعد الاجتماعي إذ حاول المخرج بناء صورة إيجابية جداً عن المجتمع الأمريكي في المدن وخاصة في التجمعات السكنية المنعزلة بإظهار صداقة ولقاءات مسلية بين الجوار، بشكل مبالغ به.

المنزل المفتوح
تدور أحداث الفيلم في ولاية-كاليفورنيا-إلا أن خلفية الأحداث تعود إلى شيكاغو ومنذ الدقائق الأولى للمشهد الأول نلمح الغموض الذي أظهره المخرج بمرور الكاميرا داخل فضاء المنزل المنفتح المحاط بالأبواب الزجاجية، والإشارة إلى بحيرة الأسماك التي سيكون لها دور بالأحداث، ليقطنه السكان الجدد، سايمون مندوب المبيعات الأول في الشركة اللطيف والمقبول اجتماعياً وزوجته روبين- ريبيكا هول- التي تريد أن تبدأ حياة جديدة بعد إجهاض جنينها. وتبدو الأحداث الأولى في الفيلم رتيبة وتمضي بدقائق طويلة ومعظمها داخل المنزل المفتوح، لتدخل الشخصية التي حرّكت الأحداث وغيّرت السياق الدرامي للفيلم غوردن الرجل الذي وصف بأنه غريب الأطوار وغير مقبول اجتماعياً بلقاء حدث مصادفة “بالمول” مع سايمون وزوجته، ويفصح عن شخصيته بأنه كان صديق سايمون في الثانوية، ليتوازى بين المسار الواضح الهادئ لحركة الشخوص، وبين الصراع الدرامي الداخلي لأبطال الفيلم والخوف الذي ينعكس على ملامحهم، لاسيما بعد زيارته منزلهم والتعرّف إلى مداخله ومخارجه وإرسال الهدايا لهم ابتداءً من زجاجة النبيذ إلى طعام الأسماك إلى الأسماك الصغيرة.

القتل نفسياً
لكن الأحداث لاتقف هنا لاسيما بعد أن يطلب سايمون من غوردن الابتعاد عنهما فيرسل لهما هدية مع بطاقة كنت أريد “طيّ صفحة الماضي”، فتثر هذه الجملة ريبة ريبكا فتحاول أن تنبش أحداث الماضي، وهنا يتضح دور المخرج بالتأثير على المتلقي بالإيحاءات التي توحي في أية لحظة بوقوع جريمة قتل، لكن مايريده كان جريمة قتل نفسياً بالأحداث المخيفة التي ترافق ريبيكا وهي وحدها بالمنزل مثل فتح الباب، الإيحاء بوجود أحد بالغرفة، مرورها بالممر الطويل وسقوطها المفاجئ، وقوع زجاجة الزيت وهي تقطع الخضار في المطبخ وبيدها السكين، إحساسها بالمراقبة وهي تستحم، اختفاء الكلب وموت الأسماك، وقد بدت هذه المشاهد أكثر إخافة بتأثير اللقطة الطويلة وامتداد المشهد الواحد والموسيقا الصاخبة والأصوات الحادة، والإضاءة الباهتة ومن ثم تلاشي الصورة بضبابية، والأمر المثير أن هذه الألغاز بقيت مجهولة وفسرها سايمون لزوجته بأنها نتيجة تعاطيها الحبوب المهدئة لتأخرها بالحمل، لكن الأحداث الأخيرة من الفيلم تكشف غير ذلك.

الاعتذار بعد التدمير
المشاهد الأخيرة تفصح عن الحقيقة ليوضح المخرج المغزى من الفيلم بتشويه صورة غوردن بفضيحة افتعلها سايمون باتهام غوردن بأنه مثلي، ومن ثمّ تعرضه للإهانة ولطرده من المدرسة ولتعذيب والده الذي حاول إحراقه، وفي الوقت ذاته تكشف حقيقة سايمون الذي وصفه سيناريو الفيلم بأنه لئيم ومتنمر وانتهازي بالعمل، تزامن ذلك مع رفض غوردن الذي يعمل سائقاً اعتذار سايمون له في مشهد يثير الجدل بمسألة الاعتذار بعد تدمير الآخر وينتهي بمشاجرة عنيفة بينهما.

الانتقام دون جريمة
ويرتبط الفيلم أيضاً بمجريات قدرية تغيّر حياة الإنسان فريبيكا الزوجة المثالية التي كانت تريد إنجاب طفل وتأسيس عائلة في بداية الفيلم، نراها في نهايته تحتضن طفلها الصغير في المشفى وتطلب الطلاق من سايمون بعد أن عرفت حقيقته، ليأتي المشهد الأخير الذي يكشف كل الأحداث الغامضة من خلال الهدية التي يقدمها غوردن لسايمون ويجدها أمام المنزل، وهي عربة للطفل الصغير، وفي داخلها مجموعة “سيديات”  تصور ريبيكا وتظهر أن غوردن كان يتسلل إلى المنزل ويصوّر ريبيكا ويقوم بكل الأحداث المخيفة، وأن ريبيكا لم تكن تتخيّل. لتسدل الستارة الحمراء وتخفي وجهها مع الصغير إيماءة إلى نهاية زواجها، بعد أن يزورها غوردن وبيده باقة الورود ويتظاهر بالسكينة والهدوء، لتنتقل الكاميرا إلى المشهد الحاسم حينما نرى سايمون منهاراً في ممر المشفى بعد أن فقد عمله وزوجته وطفله، بينما غوردن يتابع طريقه بعد أن نجح بالانتقام دون جريمة ودمّر حياة سايمون.
ملده شويكاني