ثقافة

الموت يختار.. كريمة

في زمن طغى عليه الصخب والضجيج يغادرنا عمالقة زمن الدهشة والحلم، مبدع تلو الآخر، عباقرة تنضح ملامحهم بشفافيّة الروح والإحساس الجميل الذي كنّا نعيشه مع إبداعاتهم، لكنهم ربما لم يستطيعوا تحمّل مفارقات الحياة وتناقضاتها فقرّروا الرحيل، واليوم ودعت الأوساط الفنية العربية فنانة من زمن له صداه الخالد في وجداننا.. فكما ياسمينة يطيرها جنون الهواء، فتتناثر وريقاتها مع اتجاهات الريح.. هكذا توقف نبض الفنانة كريمة مختار التي رحلت عن عالمنا منذ أيام بعد صراع طويل مع المرض، حيث مثلت بإبداعها رمزاً من الرموز الفنية النسائية العربية.

تميزت الراحلة مختار بأدوار الأم إلى جانب الكثير من الممثلات العربيات اللواتي أتقن هذا الدور سواء كنّ متزوجات أم لا، ومن هؤلاء فنانتنا الراحلة التي بقيت شخصية “ماما نونا” في مسلسل “يتربى في عزو” للمخرج مجدي أبو عميرة ومشاركة الفنان يحيى الفخراني هي اللقب المرافق لها، والذي ظل حاضراً في وجدان المشاهدين، حتى أن أغلب المقالات التي كتبت عن رحيلها حملت عناوينها هذا اللقب.
ما بين الأمس واليوم يمتد تاريخ فني طويل خطته كريمة مختار مع كثيرات غيرها في سفر الدراما المصرية بدأ منذ ستينيات القرن الماضي، حيث كانت من رائدات الدراما الأوائل سواء في مصر أم في سورية، اللواتي قدمن الكثير من التضحيات حتى أوصلنها إلى هذه المكانة الراقية، فقد حوربن كثيراً حيث لم يكن الفن مقبولاً في ذلك الزمن لا للنساء ولا للرجال، ومع ذلك لم يستسلمن وتابعن مشوارهن حتى حقّقن رسالتهن، وأثبتن وجودهن،  لذلك يمثلن إلى جانب الفنانين المواكبين لهن في هذا التاريخ الرافعة الفنية والفكرية للدراما ماضياً وحاضراً، من خلال مشاركاتهم التي لا تزال حاضرة تجذب الكثير من المشاهدين لمتابعة عمل ما لمجرد مشاركة أحدهم فيه. ولا يختلف اثنان على الرسالة التي قامت عليها الدراما المصرية منذ انطلاقتها حتى الآن، ممثلة بجيل الفنانة مختار والأجيال التي أتت بعدهم، حيث قدم القائمون على صناعتها آنذاك أعمالاً درامية جدية وجريئة من حيث المضمون والمعالجة، بسبب امتلاكهم لمشروعهم التنويري والفني والإبداعي، وقد شكلّت الفنانة الراحلة علامة فارقة في الدراما المصرية إلى جانب فنانات كثيرات مجايلات لمسيرتها كـ “أمينة رزق وفردوس محمد وعزيزة حلمي محسنة توفيق وأسماء كثيرة تحضر في البال لا يتّسع المجال لذكرها الآن، حتى إن بعضهن مازال يعطي لهذا الفن خلاصة روحه، والبعض الآخر رحل إلى رحمة الله، لكن بصمتهن حاضرة وباقية في ذاكرة الفن.
كان دور الأمومة الذي جسدته الراحلة كريمة مختار في الكثير من أعمالها الدرامية انعكاس لدورها الحقيقي في الحياة كأم لأبناء أربعة، خاصة وأن مهمتها في المنزل مضاعفة بسبب انشغال الأب نور الدمرداش في عمله كمخرج، فحرصت على تربيتهم والاعتناء بهم حتى يمتلكون القدرة على تقرير مستقبلهم، وينطلقون في مسيرة الحياة التي اختار كل واحد منهم الطريق الذي يتناسب مع اهتماماته، وهذا ما أكدت الراحلة عليه في أغلب حواراتها إذ قالت في أحد الحوارات القديمة معها: “لم أسمح لنفسي في أي يوم من الأيام بالتقصير بحقّ أولادي، وأخذت على عاتقي مسؤولية تربيتهم منذ كانوا صغاراً والاعتناء بكل صغيرة وكبيرة في حياتهم، وحرصت منذ صغرهم على توثيق علاقتي بهم من دون التدخل في حياتهم الشخصية إلا إذا استدعت الضرورة ذلك، فأتدخل من باب النصيحة والإرشاد لا الإجبار”.
تميزت الراحلة بمسحة من الهدوء والاتزان في أداء شخصياتها الدرامية سواء التلفزيونية أو المسرحية، فلا تغيب من الذاكرة شخصية “زينب” في مسرحية “العيال كبرت”، حيث ضبطت انفعالاتها لتجسد بشكل حقيقي دور الأم الحريصة على أسرتها وأبنائها من التفكك والضياع، وهذا ما انعكس على ملامحها بشكل هادئ ووقور، فلم تكن محايدة في الشخصية التي تؤديها بل تتماهى معها بشكل كلي تتبنى كل حالاتها ومواقفها، وهذا أحد الأسباب الهامة لنجاحها وتكريسها فنانة لها بصمتها التي ستبقى حاضرة في الذاكرة والوجدان.
لقد أثبتت المرأة حضورها الفاعل في الأعمال الدرامية منذ البدايات وحتى الآن، وقدمت فناناتنا شخصيات جسدنها بتلقائية وعفوية، هؤلاء الفنانات اللواتي أسسن لتاريخ الدراما العربية، وهناك من جيلهن من استمر يحمل الراية بكل مسؤولية وحب، ملتزمات برسالتهن الفنية والإنسانية، ومتمسّكات بتاريخ  بذلن من أجله الكثير ليثبتن أن ما أسّسنه مع الرواد من زملائهن الفنانين راسخ ومتين لا يمكن أن يهتز بسهولة مهما حاول المغرضون النيل من هذا الفن الذي يمثل مرآة حقيقية تعكس قضايا المجتمع ووجدان المشاهد العربي، مؤكدين أن الدراما مستمرة بروادها ومؤسسيها والغيورين على مكانتها العالية والذين كانوا ومازالوا يمثلون ضميرها ووجدانها.
سلوى عباس