كوثر معراوي: أنا حازمة في فرض وجهة نظري
تحضر الحياة الطبيعية لمدينة دمشق في فيلم “صمت الألوان” – كتابة وإخراج “كوثر معراوي” – إنتاج المؤسسة العامة للسينما – مشرقة زاهية، حتى في الأماكن التي طالتها الحرب، ربما إصرار من صاحبة “ضجيج الذاكرة” على أن مدينة كدمشق عصية على أن ينال منها ما ينال من سكانها من وهن وتعب، أهلها الذين، لا ريب، غيّرت هذه الحرب دواخلهم وإلى الأبد، كحال كل المدن السورية، وحال أهلها، فمدينة كدمشق عريقة في الحياة، يذهب ويأتي الناس منها وإليها، تبقى على ما هي عليه مهما حدث، مدينة ولكن من سماء.
إن هذا الخراب النفسي الذي أنتجته الحرب سيكون مولداً لحالة شعورية راقية، جمعت بين بطلي الفيلم، فالحب الذي جمعهما، ليس قائماً فقط على ما يجذب الرجل للمرأة، والمرأة للرجل، إذ إن له أيضاً جانباً إنسانياً مكتسباً، وليس غريزياً، في أن يكمل كل منهما المشهد الناقص من مصيبة الآخر، أو مما ينقص الآخر في الوجود، ربما في إشارة إلى فكرة “أفلاطون” في كون كل من الرجل والمرأة، كانا روحاً واحدة وجسداً واحداً، ثم افترقا، فأصبح كل منهما نقص يحن إلى كماله، فالفتاة – أدت دورها الفنانة روبين عيسى- وهي صماء بكماء تجد في حبيبها المصاب بعمى الألوان الكُلي أيضاً والطرش الجزئي، المعين الأمثل لجعلها تتعرف على ما لم تسمعه في حياتها بسبب إعاقتها السمعية، وهو أيضاً يعتمد على حسها الطفولي، وعلاقتها الصحيحة بالألوان، ليختبر إحساسه اللوني عبرها بما حوله، فضحكتها تعني أن الشمس مشرقة والعالم بسلام، وانكسار قسمات وجهها، يعني العكس، حتى لو كان هذا ليس صحيحاً.
لم تنج “كوثر معراوي” من سطوة الواقع اليومي لما يجري من أحداث دامية في بلدها على قصتها الفيلمية، إلّا أنها أيضاً لم تبالغ في أن يكون هذا الواقع هو الهاجس والكارثة في آن، حيث رأت المخرجة حسب قولها لنا: “أنه من الأجدى أن تكون وجهة نظر هذه الشخصيات التي صارت في السنة السادسة للحرب، هي من يطرح ما يجري بين الناس في حياتهم اليومية وتفاصيلها”، الناس الذين سيحضرون أيضاً في فيلم “صمت الألوان”، ولكن كأحد أبطاله، إضافة إلى أن الألوان المشرقة (والكلام للمخرجة ) والفكرة المراد تقديمها من إظهارها مشرقة، وليست قاتمة، كما لاحظنا في معظم الأفلام السورية التي تناولت الأحداث التي تمر فيها البلاد أيضاً، هي تأكيد ضمني، أنه ورغم هذا الخراب العام، هناك ما يدفع للحياة دائماً.
الشاب – أدى دوره الممثل مروان أبو شاهين- لديه هاجسه الفني، فمن تربى مع لوحات لـ “فان كوخ” على جدران بيته، يريد أن يعرف ما الذي شغفه فيها؟، فها هو يقوم على تقديم المشروبات لرواد أحد معارض الفن التشكيلي، وهو يصغي بسمعه الثقيل لأدنى نأمة تصدر بين الفنان صاحب المعرض وأحد النقاد الحضور، قبل أن يهرع أيضاً ليلبي نداء قلبه، فيتجه إلى حيث تقف حبيبته ليقدم لها شراباً بارداً، وتكافئه بضحكة، وفي العودة إلى الحرب التي تحضر في الفيلم بآثارها النفسية الإنسانية وليس بصخبها وعنفها، فهنا سيتجلى هذا الحضور بالأسى الذي جاءت تبثه الفتاة لحبيبها بكونها مضطرة إلى الهجرة مع أهلها بسبب الحرب، ويبدو أن المخرجة – الكاتبة، لم ترد أن تذهب نحو تعميق الإحساس بهول الفاجعة، ليقينها ربما بأن الناس، ملت من الألم، وتعبت منه، فها هي تجد مخرجاً كارثياً يحل مصيبة العاشقين، سقوط قذيفة في المكان الذي يجلسان فيه، وإصابته المباشرة بشظية اخترقت خاصرته، ستكون المسبب بأنه، وهو ينزف، لا ينسى أن يخرج المحبس، ويضعه في يد حبيبته اليسرى، التي وضعت يدها على جرحه، فجاءت أصابعها مفرودة وكأنها في موافقة مسبقة وضمنية على أن تبقى، بعد أن كان الأمر قد وصل بينهما إلى عرضها الزواج عليه كي لا تهاجر، ليقابلها بتردده بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة، وربما يحسب للمخرجة أنها قامت بزج المشاكل اليومية الحياتية بتفاصيلها المنبثقة من رحم الحرب، وكأنها صارت شأناً عادياً ويومياً، ويجب العمل على تجاوزها لا على جعلها متكأ للخيبة والخذلان.
سيقف من يشاهد الفيلم أمام ثلاثة تفاصيل مرت مروراً جميلاً ومعبّراً في الفيلم: حضور الناس كما لو أنهم أبطال حقيقيون في الفيلم، وليسوا “كومبارس” يمر ملوحاً، بالإضافة إلى الحب في الحرب، والقصة التي جمعت بين الشاب والفتاة، أما ثالثها فهو الجانب الذي رأت المخرجة أنه يجب أن يقدم بحساسية عالية، خصوصاً في مزاوجتها بين اليومي والعرضي والزائل، كحادث السير الذي تعرّض له بطل الفيلم، وبين المرور الأخاذ لمجموعة من المحاربين، وهم يرفعون إلى جانب بنادقهم الحربية علم البلاد، أصواتهم التي تصدح بالغناء العذب، فها هو أحدهم يلبي الوصية، ويغني (ما في حدا غيرك بيحميها)، في إشارة واضحة من المخرجة إلى من ترى أنهم رجال هذه الحرب التي ستولد منها الحياة القادمة، حتى لو عاد أحد هؤلاء الرجال إلى بيته ملفوفاً بالعلم الوطني كما شاهدنا، فهذا ثمن الكرامة والحرية.
في الحقيقة لا يمكن التعامل مع “صمت الألوان” على أنه فيلم كلاسيكي، بمعنى أنه يعتمد على القص الأرسطي، وما يتضمنه من شروط لهذا الفن، فالحياة هنا ليست تجربة منتهية، ولا يمكن الحديث عن تقاطعاتها في جوانيات الناس، وأثرها كما لو أنها حكاية منجزة، أما سبب اختيارها للنص المفتوح فتقول عنه في حديث للبعث:
أعشق النهايات المفتوحة التي تترك لخيال المتلقي المساحة ليكمل القصة إلى ما لا نهاية، ولا توجد نهايات للقصص، فدائماً عندما تنتهي قصة تبدأ الأخرى.
الفيلم هو بعض من تفاصيل الحياة التي يعيشها السوريون خلال الحرب وبعد مرور سنوات، نتاجها هذا الخراب الذي جعل كل واحد منا، مهما حيّد نفسه ووقاها، يبتعد عنها بطريقة ما ربما مثل بطلي الفيلم، ولكن أثرها التخريبي على النفس والروح والجسد، وحتى العلاقة فيما بينهما ستبدو جلية وواضحة من أصغر تفاصيل حياتهما إلى أكبرها، وتلك الطفولة السورية التي كبرت قبل أوانها، تبدو في تصرفات الأطفال، حيث هجرتهم ألعابهم لتحترق بنيران القذائف، وضحكاتهم لم يعد هدير صداها وقوتها قادراً على تغطية أصوات الحرب، أما خوفهم ودهشتهم البريئة فاختفت تماماً مع الموقف الذي يجبرهم على أن يصبحوا فجأة كباراً، وأن يتصرفوا بشجاعة وعزم مع مجريات الحرب، ولكنهم في النهاية هم الأمل، وما بقي في هذه الحياة الصعبة التي نعيشها خلال الحرب يعود الفضل فيه لرجال يغنون للحب وهم في طريقهم للحرب لنحيا نحن، ونحيي قلب سورية بنبضنا.
وفي الحديث أيضاً عن الفرق بين تجربتها السينمائية الأولى، وتجربتها في الفيلم آنف الذكر، قالت معراوي:
“ضجيج الذاكرة” بالرغم مما انتابني من قلق وخوف، ولكن كانت هناك متعة كبيرة أثناء التنفيذ، حتى وإن حدثت فيه بعض المشاكل، لكنها كانت لا تذكر أمام تحقيق حلمي، وهو إبصار النور لأول نص أكتبه، وبالمصادفة كنت مخرجته، ما أعطاني المساحة الكافية لتنفيذ ما وراء الكلمات التي كتبت في النص بصرياً.
أما فيلم “صمت الألوان”، وبما أنه فيلم احترافي فكانت المسؤولية أكبر وفيها نوع من التحدي لتقديم ماهو أفضل من الفيلم السابق، وكنت دائماً أحاول أثناء تنفيذ العمل من بدايته لنهايته بسبب الصعوبات التي واجهتني أن أصل إلى حد 50 في المائة من إعجاب المشاهدين.
وعن أداء الممثلين الذي جاء متفاوتاً في المستوى من ناحية التعبير سواء بالإشارة أو بالحركة والسلوك والانفعال قالت المخرجة:
بالنسبة لأداء الممثلين العمل مع الأدوار الثانوية يكون له متعة خاصة بأن ممثل الشخصية أكثر عفوية في ردات فعله، فهو ينفذ ما يطلب منه تماماً، وبالتالي فهو أكثر مصداقية من اللقطة الأولى، أما الممثلون المحترفون فلكل منهم رؤية خاصة في إطار أداء الشخصية والعمل من وجهة نظره، ولذلك كنت أستمع لوجهات نظرهم التي أحياناً تتقاطع مع ما أريده منهم، وأحياناً تكون مغايرة له في أداء الشخصية، لذلك عندما أفرض وجهة نظري على الممثل في “البروفات” التصويرية يتبع ما أريده ويضفي على أدائه شيئاً من وجهة نظره التي طرحها مسبقاً، لكن أثناء التصوير ومنذ اللقطة الأولى يتبع ما أريده، لأني أكون حازمة في فرض وجهة نظري، لأن الممثل غالباً يرى دوره في العمل كممثل مجتزأ، بينما المخرج يرى العمل بشكل متكامل ككل، ولديه تصور مسبق لما يريده، وأنا ككاتبة للنص ومخرجة له، كنت أعرف ما أريد أو ما يريده النص والعمل ككل من الممثل، وأحياناً يضطر المخرج لحذف مشهد أو لقطة لعدم رضاه عن النتيجة وبما يخدم الفيلم في النهاية.
تمّام علي بركات