ثقافة

في مهب الرصيف

في غفلة منها ومني التقينا على رصيف ناصع الأمل، شرفته بوابة مشرعة على أشد الاحتفاء بذاتها، أطفاله منذورون لدهشة التأمل، وصباياه ينثرن آخر ماتبقى لديهن من صلصال حواء وسحر غوايتها، وعطر أنوثتها.
في غفلة منا تغلغلت الأصابع وكونت دالية ياسمين، وأرسلت ألف عنقود عنب، طافح الهوى، للذين لا أعشاش لهم، ولذنا بلحاء شجرة آلت إلى المغيب, قبل أن تعلن  عن سّر حبة الرمان التي تقود إلى فردوس الله.
في غفلة منا ذبنا في أحمر التفاح، وما انتبهنا، توسدنا اليقين ولذنا بالهوى، وقلنا يارب احمنا من عيون الناس, ومضينا إلى بيت له شرفتان تطلان على غياب موحش وحزين، وياسمينة آيلة للحزن، في هبوب العاطفة، ثم مضينا إلى شرفة تطل على غياب أليم، على نافذتين، وبوح سوسنة، ارتجلت قلبي الذي لا أملك سواه، وقلت ما قلت. هي لم تقل حينها أي شيء فيما بعد، قالت لي ما قالت, نعم لقد قالت الكثير.
في ذهابنا إلى أيامنا الحلوة، في مهب الرصيف، مضت وقالت أنها ستعود برفقة عود ثقاب وسيجارة.
في مهب الرصيف والصيف صبارة، أشعلت سيجارتها فأشعلت قلبي، ونفثت دخانها في فضاء أيامي فشكل دوائر مغلقة، وملامح مطلسمة.
افترشنا الأرض، فاح عطرها الذي لا يخطئه قلبي, فأيقنت أن عطر حواء هو طيب الله على الأرض، وحين تأملتني بعينين كئيبتين عرفت أن العيون نوافذ الروح, وحين همست بأذني اليسرى قائلة:  “أحبك” أدركت إن لي قدرة مميزة على سماع الأشياء الجميلة بطريقة متميزة, وأدركت أيضاً سر هذا الحزن الطويل الكامن خلف ليل الكمنجات الطويل. وحين لامست أصابعها وغامرني ذاك الشعور, الذي لا يمكنني التعبير عنه, لأقل في هذه اللحظة، حين ذاك تذكرت مقولة لجدتي تقول فيها: “إن الروح ولحلاوتها في اللحظة التي تغادر فيها الجسد,  فهي تغادره من الأصابع”.
شمس صباح اليوم التالي أيقظتنا، لذنا بدالية الياسمين, وذهبنا في الحلم أكثر. فجأة انتفضت مثل يمامة غازلها المطر ففرحت. قالت: “سأجلب بعض الورد وأعود”. قلت لها:  “وجودك أجمل من الورد, وأروع من روعة أي عطر”. ابتسمت ومضت بكثير من الهدوء، انسلّت, وبقيت لوحدي, على جمر أحرق دقائق انتظارها, وانتظرتها لساعات ولم تأت!
قلت لذاتي لعّلها, وحسب مزاجها الذي أعرفه تماما:  لربما هي تستبدل الورد بقارورة عطر، ولربما التقت بصديقة قديمة فألهتها عني ، ولربما….!.
وهكذا سارت بي الأيام تطحنني بكل قسوتها، يوماً إثر يوم  وساعة اثر ساعة, وسألتني هل عبرتني مثل سحابة طارئة على فضاء خجول؟. ولماذا عبرت خاصرتي اليسرى, بكل ذاك الشغف والهيام, ومن ثم أردتني مضرجاً بتفاح انتظارها؟!
فيما مضى لم أكن قد جربت لوعة الانتظار, ولا تلك القسوة التي يمارسها علينا؟!
لم أكن أعرف هذا الجلاد, الذي يجلدنا في كل لحظة من لحظات انتظارنا لمن نحب.
يارب, كم هو مؤلم أن ننتظر أحدا ما, أحدا ما نحبه جدا,  وفي قرارتنا ذلك الناقوس الذي يزيدينا قلقا أكثر وبؤساً.
صوتا ما أتاني من إحدى الجهات لربما من الجهة الشمالية قائلا: “عبثا ماتفعله, بنفسك، ماجدوى الانتظار المر؟.
وها أنذا يدمرني حنيني إليها.. لعطرها يشعرني بإنسانيتي، لعيونها تغسل روحي في صباحات القهر والعذابات, أرنو إلى ظلها الحرون، وحين أرنو إليّ أجدني لست أنا فأبكيني وحيداً, وأهيئ روحي  لمزيد من التعب، لجنون فظيع ومتفرد أنا الولد السيئ الحظ، أنا الخاسر الأكبر.
مر قطيع الغزالات الجميلات وما انتبه إليّ، ومرت أسراب السنونوات دون أن ترمي عليّ بعض سفرها الحزين، عبرني عطر مئة صبية ولم أتنشقه, كنت ومازلت أعلل نفسي بالقول: ” أنا عرّاب  أنينها, أنا الولد الذي أيقظ في روحها مئات القرى النائمة.
وأقول أيضاً: “لعّلها تحن ذات مساء, إلى عطر وظل, وهسيس تلك الياسمينية, التي احتضنتها ذات شرفة، لعّلها  ذات مرة تفقد قارئ فنجان محترف مثلي، وتعود في صباح باكر، لتطرق عتبة قلبي, حينها سأفتح لها بوابة روحي، ونوافذ عيوني، ومن ثم أوصد الأبواب والنوافذ والستائر وشبابيك عيوني عليّ وعليها, وإلى أبد الآبدين.
والآن وبعيداً خلف ذاكرتي العتيقة، لاشيء سوى ذاك الولد السيئ الحظ,  الولد الذي هو أنا, الولد الخاسر الأكبر، واليائس والبائس,  والذي هو أنا أيضا.
أحمد عساف